لأن الذاكرة العربية قصيرة، ننسى أحياناً في غمار الأحداث والتفصيلات أن الغزو الأميركي العراقَ تحت لافتة التحالف الدولي كان هدفه البحث عن أسلحة دمار شامل ونشر الديموقراطية في العراق. فهل تحقق اليوم أي من الهدفين أم أن الذي تحقق كان بمثابة الحصاد المرّ للشعب العراقي والعرب جميعاً بل وللإنسانية أيضاً؟ فبدلاً من اكتشاف أسلحة الدمار الشامل التي ثبت أنها كانت أكذوبة كبيرة فتحت جهنم أبوابها في العراق واستدعت قوى العنف والتطرف والإرهاب من كل فج عميق. وبدلاً من نشر الديموقراطية تفتت العراق وأيقظت الفتنة الانتماءات الطائفية والعرقية من سباتها وأطلقت غرائز العنف من عقالها فأعطى هذا الحصاد المرّ أكثر من مليون قتيل في العراق كان آخرهم مئة من المؤمنين المسيحيين الذين سقطوا غيلة وغدراً في كنيسة سيدة النجاة في بغداد. لم يعثر أحد إذا،ً في العراق على أسلحة دمار شامل ولا رأينا حتى الآن شيئاً من ديموقراطية بل اكتشفنا بعد أقل من عشر سنوات أن عدد المسيحيين في العراق قد تناقص من مليون ونصف المليون نسمة إلى نحو أربعمئة ألف فقط! وأن العراق يتفتت على الأرض متضرجاً في دمائه وهو الذي كان دولة مدنية موحدة ولو أن على رأسها كان يجثم طاغية كبير. السؤال الآن هو هل كان هذا الحصاد المر الذي نتجرعه اليوم في العراق والسودان والصومال ومن قبل في فلسطين وفي الغد لا ندري من يحل عليه الدور هو غرس النظام العالمي الجديد أم إنه كان أيضاً نتيجة تقصير عربي؟ الواقع أن الحصاد المرّ كان بفعل الاثنين معاً. ربما كان علينا أن نعترف ابتداء أن ثمة مسؤولية عربية عما آلت إليه الأوضاع الكارثية في العراق والسودان وعما تنذر به السحب الداكنة في سماء المنطقة. مبعث هذه المسؤولية أنه لم يكن لدينا كعرب على مدى الخمسين أو الستين سنةً الأخيرة رؤية واضحة للتعامل مع الأقليات العرقية والدينية واللغوية والطائفية في بلاد العرب. افتقدنا هذه الرؤية على الصعيدين السياسي والفكري. بل إن المشروع القومي ذاته بتوجهه العلماني لم ينجح بما فيه الكفاية في توظيف التنوع العرقي واللغوي والديني في بلاد العرب ليرتب على الشيء مقتضاه كما فعلت الصين في توظيف تنوعها الداخلي لمصلحة المشروع القومي الصيني. ربما اعتقدنا أن هدف الوحدة العربية كافٍ بذاته ونبل مقصده لأن ينسينا واقع أن هناك إخوة وشركاء لنا في الوطن لا يجدي إنكار أو تجاهل ما يمثلونه من خصوصية وتنوع. كان علينا وما زال واجباً أن نعطي مشروعَنا القومي العروبي بعده الإنساني الكبير لكي يحتضن كل الانتماءات الدينية والعرقية والثقافية ويجعل منها مصدر ثراء وقوة بدلاً من أن تبقى مبعث ارتياب وتساؤل. ولعلنا لم نستفد ولم نبدِ اهتماماً كافياً حتى الآن بالتطورات المهمة في تركيا على صعيد رؤيتها الجديدة الآخذة في التبلور في التعامل مع المسألة الكردية، على رغم ما هنالك من إرث ثقيل من العنف والدماء والشكوك بين الدولة التركية وبين الأقلية الكردية فيها، فهناك إصلاحات متنامية لأوضاع الأكراد في مجالات اللغة والثقافة وغيرها بدأت الدولة التركية القيام بها أخيراً. ولم يكن هذا التوجه الرشيد على حساب وحدة الأمة التركية أو تطلعاتها أو طموحاتها القومية، بل إن تركيا النشطة التي لا تهدأ من الحركة هذه الأيام تسعى لتعزيز الروابط مع الشعوب والتجمعات الآسيوية الناطقة بالتركية في تأكيد واضح لهوية أحفاد الإمبراطورية العثمانية. لكن الغرب بدوره لا يفلت من المسؤولية عن هذا الحصاد المر. والمفارقة وربما المأساة أن ممارسة النظام العالمي الجديد وفي قلبه الولاياتالمتحدة الأميركية لمشروع نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان جاءت مختلفة في الغاية والأسلوب بحسب المكان والمنطقة. ففي أوروبا الشرقية كان النظام العالمي الجديد جاداً وأميناً في غاياته الديموقراطية والحقوقية وكان نظيفاً إلى حد كبير في الأساليب التي اتبعها، بينما في المنطقة العربية لم يكن الهدف الحقيقي لتدخله هو نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان بقدر ما كان تحقيق المصلحة الأميركية في الحضور قريباً من مصادر الطاقة حالياً في العراق ومستقبلاً في السودان. أما وسائله في التدخل فلم تكن نظيفة ولا مشروعة ولا إنسانية مقارنة بتدخله الناعم في أوروبا الشرقية، ولعلّ ما نشر على موقع ويكيليكس الإلكتروني من مئات آلاف الوثائق حول الممارسات الأميركية في العراق لا يحتاج إلى دليل إضافي في شأن الحصاد المر لمشروع النظام العالمي الجديد لنشر الديموقراطية في بلاد العرب. لكن الذي فاقم من الحصاد المر للنظام العالمي الجديد هو الموقف العربي الذي بدا مرتبكاً في بداية إطلاق أجندة هذا النظام، ثم بدا خائفاً وعاجزاً أمام وقع أصداء نظرية الفوضى الخلّاقة في ولاية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن. فقد بدت أصداء هذه النظرية وكأنها طبول حرب تقرع لإثارة الذعر ثم سرعان ما تبين لنا أنها الحرب الحقيقية بالفعل! وهل يمكن تسمية ما حدث في العراق بغير ذلك؟ وهل ثمة تسمية أخرى لحرب تموز يوليو 2006 على لبنان بعد ما تبين أن الرئيس الأميركي السابق بوش الابن كان هو الذي يحاول إقناع إسرائيل بمواصلتها بينما كان الإسرائيليون أنفسهم يسعون للخروج منها بسرعة؟! من غير المفهوم لماذا بدا العرب بهذا القدر من الارتباك والعجز أمام طرقات النظام العالمي الجديد على أبوابهم. ربما كانت تعقيدات المسألة الديموقراطية والأوضاع الحقوقية هي السبب. وربما زاد من ذلك اعتقاد ما قبيل وبعيد غزو العراق أن أميركا يمكن أن تكون جادة في مشروعها لنشر الديموقراطية. لكن، في كل الأحوال، كانت الأخطار المحدقة بالأمة أكبر من كل هذا. فلماذا لم يبد الموقف العربي قوة أو حتى مجرد العناد في إجهاض أو عرقلة مخططات النظام العالمي الجديد في العراق والسودان وفيما يرتب في فلسطين أو لبنان؟ قد يرى البعض بحق أن الموقف العربي يتسم منذ سنين طويلة بالارتباك والعجز في التعامل مع التحديات والمتغيرات. لكن كان المأمول أن يتحرك العرب وهم الذين جربوا مقولة"أكلنا يوم أكل الثور الأبيض"! فالجديد هذه المرة أن أجندة القوى الكبرى والأصابع الخفية التي تحرضها باتت تهدد لحمة المجتمعات العربية ووحدتها. يتم هذا التهديد تحت حجج وذرائع شتى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. في النهاية علينا أن نعترف أن النظام العالمي الجديد وفي القلب منه الأجندة الأميركية، إنما يعكس مصالح حكومات ونخب سياسية وجماعات مصالح وقوى غامضة ومستترة قد لا تكون بعيدة منا! لكن الأمل ما زال معقوداً على ضمير الشعوب الغربية، هؤلاء الشرفاء من المواطنين الأحرار والمنظمات الحقوقية والإنسانية. أملنا في أن نكسر حواجز الإهمال والتقاعس لنتواصل مع تيارات الإنسانية الجديدة في معقل الغرب نفسه. فربما يولد من رحم هذا التواصل أمل جديد يهزم اليأس الذي يبثه المتطرفون الجدد في كل مكان! يقول الشاعر الراحل أمل دنقل: ... وفي الصباح، والنشيد الوطني يملأ الأسماع كانت الأصوات في القرى جنائزية الإيقاع ورحلة الموّال في الضلوع تفرد القلوع "أدهم مقتول على كل المروج" "أدهم مقتول على الأرض المشاع" وكان وجهه النبيل مصحفاً عليه يقسم الجياع! * كاتب مصري