قام جزء كبير من سمعة الفيلسوف والكاتب الألماني فريدريك نيتشه على كونه مفكراً لا أخلاقياً، مشاكساً بنى فلسفته على مبادئ عنيفة ومارقة. ولقد ساهم بعض كتبه الأساسية في صياغة هذه السمعة له، وفي جعله فيلسوف الجنون النخبوي،"الذي لا يهدأ له بال مع وجود أية أخلاقيات أو قيم". ولعل كتاب"أورور"الفجر واحد من هذه الكتب، بل انه في نظر كثر الكتاب الرئيس الذي عبر فيه صاحب"هكذا تكلم زرادشت"عن مواقفه اللاأخلاقية تلك. ومع هذا فإن قراءة معمقة لهذا الكتاب سوف تقول لنا ما يعاكس هذا الرأي تماماً: سوف تضعنا أمام فيلسوف أخلاق ذي نزعة انسانية واضحة. بل ان قراءتنا معظم كتب نيتشه سوف تقول لنا إن المفكر بعيد من أن يكون داعية اللاأخلاق، إنما كان همه الرئيس أن يبحث عن أخلاق تلائم الإنسان ويتفاعل معها بقوة، بعيداً من أخلاق تفرض عليه، من قبل شرائح وفئات تسعى دائماً الى المماهاة بين الأخلاق التي تفرضها و مصالحها الخاصة. بل ان هذه المسألة الأخلاقية، حتى وإن اتخذت في بعض الأحيان سمات تبدو في ظاهرها مارقة، تكاد تكون العامل الأساس الذي يحرك فكر نيتشه وقلمه. من هنا نراه، حتى حين يتناول، مثلاً، في واحد من أهم كتبه، بداية الفلسفة اليونانية ما - قبل - السقراطية، ويتحدث عن أعلامها من طاليس الى هيراقليطس وبارمنيدس، ويقيم التعارض بينهم وبين سقراط الأفلاطوني، أي كما صورته حوارات أفلاطون مؤسساً فكره على المسألة الأخلاقية نفسها. غير ان ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نسارع باعتبار نيتشه فيلسوف أخلاق. هو فقط فيلسوف فكر انساني، يرى أن الأخلاق واحدة من أسس الوجود الانساني. وما الفقرات العديدة التي يتألف منها كتاب"الفجر"سوى أوفى دليل على هذا. كتاب"الفجر"ليس في حقيقته كتاباً سردياً كما اعتادت الكتب أن تكون، بل انه ينتمي، شكلاً، وربما مضموناً أيضاً الى كتاب"الأمثال"للاروشفوكو، في تألفه من 575 فقرة تتفاوت طولاً وكثافة، يحاول الكاتب أن يعبر من خلالها عن مواقفه من الأخلاق، من الانسان، ومن الحياة. ولا بد من الاشارة هنا الى أن للكتاب عنواناً ثانوياً، هو"تأملات حول الأفكار الأخلاقية المسبقة"أو الأحكام المسبقة. وعلى هذا النحو، بدءاً من هذا العنوان يتضح لنا كيف أن نيتشه يضعنا مباشرة في قلب السجال الذي كان يهمه، ذلك ان العنوان - حتى وان تغاضى كثر عن ذلك - يشير مباشرة الى"الأحكام المسبقة"لا الى"الأخلاق"بشكلها القيمي السلوكي. وهكذا لم يفت كبار شارحي نيتشه ومكملي عمله ان يشيروا بوضوح الى أن هذا الكتاب"على رغم انه يبدأ الحملة التي خاضها نيتشه ضد اخلاقية المجتمع، لا يشن أي هجوم على الأخلاق نفسها ولا يرفضها". كل ما في الأمر انه يدعو فيه الى نوع من"نقل الأخلاقية من أسس الى أخرى"، وبالتالي الى اخلاق جديدة، وقيم جديدة، تنبع من الانسان وتصب لديه. ان هذا الكتاب الذي نشره نيتشه للمرة الأولى عام 1881، كتبت فقراته بين عامي 1879 و1880. وكان هم نيتشه الأساسي في تلك الفقرات التأملية، وكما قال بنفسه: بحث الأخلاق وقد حولت الى أحكام مسبقة. بالنسبة اليه لا ينبغي أن يكون ثمة أحكام مسبقة، وذلك انطلاقاً من مبدأ"براءة الصيرورة"، الذي كان في ذلك الحين، عزيزاً عليه ويشغل كل تفكيره. فهو، وكما يعبّر في العديد من فقرات هذا الكتاب، كان يرى أن"الأفعال، الموسومة عادة بأنها أخلاقية، يجب أن تنجز، ولكن لأسباب تختلف عن تلك التي تبنيناها حتى الآن". وهنا، وللمرة الأولى في فكر نيتشه تظهر على هذا النحو تلك الفكرة التي ستشغل جزءاً من أفكاره وكتاباته: فكرة"مستقبل النبل". ففي فقرة يتحدث فيها عن هذا الأمر، يطور نيتشه فكرة أساسية لديه، تقول انه في خضم الحال التي وصلت اليها السياسات والقيم في زمنه،"ها هي تنمو وتتطور خارج حلقة هذه السياسات، وخارج أحكام المدافعين عنها مستخدمي القيم القديمة لتبريرها ارستقراطية ثقافية جديدة، تكرس نفسها وأفكارها لنشر المثال الأعلى المرتبط بالحكمة المظفرة". وهنا في مجال الحديث الجذري عن الثقافة، يعبر نيتشه عن أنه يحدس تماماً بكم ان الثقافة نفسها"يمكن أن تكون مضجرة اذا ما رسمت من دون حماسة، ومن خارج اهتمامات الحياة نفسها، أي كأن تكون هي هدف ذاتها. فإذا كانت الثقافة هكذا تكون خواء في خواء، فالتة ولا تقود إلا الى الخيبة"ستكون مجرد"دون جوان الثقافة"كما يفيدنا نيتشه ساخراً في الفقرة رقم 327 من كتابه هذا. هنا لا بد أن نشير الى أن الحملة ضد الأخلاق القديمة"، التي تبدأ مع هذا الكتاب، في فكر نيتشه، يمكننا ان نجد مقدماتها في كتاب سابق له هو"انساني... انساني أكثر من اللازم". ولكن اذا كان نيتشه في هذا الكتاب الأخير قد نوّع في أهدافه وفي الأمور التي يشاء مهاجمتها، فإنه في"الفجر"حدد العدو تماماً، وللمرة الأولى في تاريخه الكتابي: العدو هنا هو الأخلاق المفروضة من أعلى على البشر، ولا سيما من قبل الكنيسة... أما اسلوبه فهو اسلوب التعمق في البحث السيكولوجي والتاريخي. وهذا الأسلوب هو الذي نجده طاغياً على فقرات الكتاب كلها...أما الغاية الأساس التي يمكن أن نكتشفها فقرة بعد فقرة فهي، وبحسب تعبير نيتشه نفسه: اتساع هيمنة أفكارنا وأحكامنا المسبقة على مسألتي الخير والشر. ومن هنا يمكننا أن نقول مع شارحي اعمال نيتشه ان الأخلاق ليست ما يهاجم هنا، كقيمة انسانية ازلية وجدت من قبل الكنيسة وستظل موجودة من بعدها، بل ما يهاجم هو نزع العقلانية عن الأخلاق. وعلى هذا فإن ما يسعى نيتشه اليه هو القيام"بمحاولة جادة لإعادة العقلانية الى الأخلاق". وعلى هذا النحو تأتي اضاءة الكاتب/ الفيلسوف، للعالم السفلي للأخلاق"لتضع حدا للصدقية المزيفة التي كانت تتمتع بها أسباب كانت دائماً ما يلجأ اليها من أجل تبرير هذا الموقف الأخلاقي أو ذاك". همّ نيتشه هنا هو نزع الصدقية عن هذه الأسباب والمبررات، وبالتالي نكران النمطية المطلقة للمفاهيم الأخلاقية. وفي هذا السياق، يستعيد نيتشه مفاهيم مثل الواجب والمنفعة والتعاطف والشفقة، من بين أيدي تبريريي الكنيسة والفلسفة، ليعيد اليها ابعادها العقلانية التي هي ما يشكل أصالتها مؤكداً في هذا السياق ان"الأخلاق تستند في حقيقة أمرها الى غرائز هي في الواقع قليلة الأخلاق، مثل الشر والقسوة والأنانية وما الى ذلك". والحقيقة أن نيتشه في هذا الإطار بالذات يبدو لنا وكأنه يكمل تماماً لاروشفوكو، أو يعيد تفسيره أو يعمقه على الأقل...أو بالأحرى: يعطيه ابعاده التوليفية الفلسفية. بيد أن نيتشه اذ يوضح هذا، يستطرد قائلاً ان تلك الأخلاق هي في حقيقة أمرها اخلاقنا، فإذا ما أردنا تجاوزها لا يمكننا ذلك الا بالاستناد الى الأخلاق نفسها. فهل معنى هذا ان الكاتب يدور في حلقة مغلقة، كما يتهمه بعض مناوئيه؟ أبداً، كل ما في الأمر ان المفكر يعيد الأخلاق، في لغته، الى جذورها القيمية المطلقة، مانعاً استخدامها نسبياً لخدمة مصلحة من المصالح. وتلك هي في نهاية الأمر غاية نيتشه من هذه النصوص. حين جمع فريدريك نيتشه 1844 - 1900 هذه الفقرات ونشرها كان في السابعة والثلاثين من عمره وكان قد وطد من السمعة والمكانة، ما جعل له قراء كثراً في ألمانيا، و في طول أوروبا وعرضها أيضاً. ولقد كان من أبرز كتب نيتشه قبل"الفجر"،"انساني..."و"ولادة التراجيديا"، أما بعد"الفجر"فقد أصدر عدداً كبيراً من كتبه المهمة مثل"هكذا تكلم زرادشت"و"ما وراء الخير والشر"و"حال فاغنر"و"غروب الآلهة"و"المعرفة المرحة"وغيرها من كتب وطدت مكانته كواحد من المفكرين الذين ختموا العصور السابقة وافتتحوا القرن العشرين وحداثته الفكرية والأدبية والأخلاقية أيضاً. [email protected] نشر في العدد: 16960 ت.م: 10-09-2009 ص: 14 ط: الرياض