هناك لاعبان رئيسيان في نطاق المنظمات الدولية تؤثران في شكل مباشر في سياسة إنتاج النفط وتسعيره في سوقه الدولية، وهما منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك ووكالة الطاقة الدولية IEA التي تأسست عام 1974، وهذا لا ينفي أن الدول المنتجة للبترول خارج"أوبك"وشركات البترول العالمية لها بصماتها الواضحة وأثرها الذي لا ينكر في هذا الجانب. أمامنا تقريران صدرا هذا الشهر عن أهم منظمتين تعنيان بالعرض والطلب على النفط وأسعاره، التقرير الأول عن وكالة الطاقة الدولية وصدر قبل منتصف هذا الشهر، ووكالة الطاقة الدولية هي وكالة تدافع عن مصالح 28 دولة صناعية، وهذه الدول تستهلك 75 في المئة من إجمالي استهلاك النفط على المستوى الدولي وقامت الوكالة أصلاً بعد ثورة الأسعار الأولى في السبعينات من القرن الماضي لتقلل من طموحات"أوبك"وفعلاً نجحت الوكالة إلى حد كبير في الحد من قوة المنظمة، هذه الوكالة الدولية توقعت في تقريرها الأخير المذكور آنفاً أن يرتفع الطلب العالمي على النفط في العام المقبل إلى 85.2 مليون برميل يومياً. وفي تقرير الوكالة نفسه الصادر في منتصف شهر أيار مايو الماضي توقعت ان يبلغ متوسط الاستهلاك العالمي من الذهب الأسود لهذا العام ما بين 83.2 و 83.8، ويعني هذا ان الطلب على هذه المادة غالية الثمن سيزيد بنسبة 17 في المئة أي 1.4 مليون برميل يومياً، عام 2010 بسبب ارتفاع الاستهلاك في الأسواق الناشئة وفي مقدمها الصين والهند. التقرير الثاني أصدرته"أوبك"وتوقعت فيه ان يبلغ الاستهلاك العالمي من النفط في العام المقبل 84.34 مليون برميل يومياً، بينما قدّرته لهذا العام ب84.03 مليون برميل يومياً، أما متوسط الطلب على نفطها في العام المقبل فسيبلغ 28.11 مليون برميل يومياً وعزت"أوبك"هذا الارتفاع الطفيف البالغ 500 ألف برميل يومياً إلى نمو طلب الدول النامية. و"أوبك"بذلك تتفق مع وكالة الطاقة بأن زيادة الطلب سيأتي من الدول النامية. إذاً، الوكالة في توقعاتها النفطية تتوقع ارتفاع الطلب على النفط في العام المقبل إلى 85.2 مليون برميل يومياً، على رغم زيادة وتيرة التشاؤم وحال عدم اليقين في مستقبل الاقتصاد العالمي على المدى القصير على الأقل، خصوصاً اقتصاد الولاياتالمتحدة الأميركية أكبر اقتصاد على الصعيد العالمي الذي ضربه أكبر إعصار اقتصادي لم يشهد العالم شبيهاً له منذ الكساد العظيم الذي ضرب العالم عام 1929 ? 1933، وانتشر الزلزال الاقتصادي الجديد من على أرض"العم سام"ليهزّ الاقتصاد العالمي برمته هزاً عنيفاً لم يفق من صدمته حتى الآن. هذا ترك أثره واضحاً في الطلب على النفط وفي أسعاره التي انهارت بسرعة فائقة بعد أن اندفعت صاعدة في قوة وعنفوان حتى بلغت 147.10 دولار للبرميل، وحال الانخفاض المريع الذي صحب الأزمة العالمية أسرعت"أوبك"إلى خفض إنتاجها مرة تلو الأخرى ليبلغ مجموع الخفض 4.2 مليون برميل يومياً لتعود الحياة لتدب في عروق الأسعار مرة أخرى لتكسر حاجز ال74 دولاراً تماشياً مع زيادة نسبة التزام أعضاء"أوبك"بحصص إنتاجهم، وما أن انخفضت نسبة الالتزام إلى 68 في المئة حتى انخفضت الأسعار لتدور حول 62 و 64 دولاراً مع نهاية الأسبوع الماضي. ومما سبق يتضح أنه ليس أمام"أوبك"لترفع أسعار النفط إلا الالتزام بالسقف الذي حددته، والتزام كل عضو بحصته، وإلا فإن المصير هو غرق سفينة"أوبك"في محيط لجي، لأن السوق الدولية غارقة في الفائض من النفط الذي يبحث عن المشترين، على تراجع إنتاج النفط النيجيري من 2.6 مليون برميل يومياً عام 2006 إلى نحو 1.6 مليون برميل يومياً هذا العام بسبب العمليات التي تقوم بشنها المجموعات المسلحة المناوئة للحكومة على المنشآت النفطية. لا شك في أن هناك عوامل تؤثر في سعر النفط سلباً وتجره جراً نحو الانخفاض، ومن ذلك أن الدول خارج"أوبك تنتج كل برميل نستطيع إنتاجه، بل إن الوكالة تتوقع زيادة الإنتاج الروسي من النفط، والمعروف أن روسيا بجانب المكسيك والنروج دول منتجة رئيسية على المستوى الدولي، وتعاونها مهم جداً ل"أوبك"على درب استقرار سوق النفط الدولية. ومن العوامل السالبة على سعر النفط أن دول"أوبك"لم تلتزم حصص إنتاجها التي تعاهدت الالتزام بها، فكلما لاح لها تحسن في الأسعار زادت إنتاجها، وإذا كانت دول"أوبك"تفعل ذلك فإنه لا لوم على الدول خارج المنظمة التي تراقب السوق وتراقب تصرفات"أوبك"، أن تفعل ذلك وتزيد في إنتاجها ما تشاء. ويضاف إلى العوامل التي تؤثر سلباً في أسعار النفط زيادة المخزونات التجارية للمنتجات النفطية، بل وارتفاع مستويات مخزون النفط الخام في أكبر دولة مستهلكة للنفط عالمياً وهي الولاياتالمتحدة الأميركية، كما أن المخزونات عند الدول الصناعية تغطي استهلاك 62 يوماً من دون أن تستورد برميلاً واحداً، فضلاً عن أن انخفاض الطلب على النفط جاء من الدول أعضاء وكالة الطاقة الدولية، وفي مقدمها أميركا منذ أن هب عليها الإعصار الاقتصادي العالمي، وبقيت آمال نمو الطلب معلقة على الدول الناشئة إلى حد كبير. وهكذا فإن النفط صاحب القوة والنفوذ - هذه السلعة الاستراتيجية التي شكلت مظاهر عدة على المستوى الدولي ربطتها بعض الدول بسياستها الداخلية والخارجية وأمنها القومي - يواجه اليوم أزمة حقيقية، وتبدو هذه الأزمة واضحة في انخفاض الطلب هذا العام إلى 83.2 مليون برميل يومياً بعد أن تخطى حاجز ال 87 مليون برميل يومياً قبل أزمة الكساد العالمية. وعلى رغم أن النفط سيبقى محتلاً الصدارة خلال المستقبل المنظور لتلبية حاجات العالم من الطاقة، بل سيبقى الخيار الأمثل بل والرئيسي للوقود في هذا القرن للمزايا والخصائص العديدة والمرونة التي تتسم بها تجارته، لكن على منتجي النفط أن يوطنوا أنفسهم على الدفاع عن سلعتهم النفيسة وفرض أسعار مجزية. وهذا يستدعي أن تشمّر"أوبك"عن ساعدها الضعيف وقبل أن تشمر عنه عليها أن تُكسبه قوة للدفاع عن الأسعار. ولن تتحقق ل"أوبك"الأسعار المجزية التي تصبو إليها الا بالتزام حصص الإنتاج لكل عضو منه في المئة، وهنا تستطيع"أوبك الحوار مع الدول الأخرى المنتجة خارج المنظمة وفي مقدمها روسياوالمكسيك والنروج وغيرها لدعم استقرار السوق بعد أن تثبت المنظمة أنها جادة في إصلاح بيتها بالتزامها الحقيقي سقف إنتاجها، وهذا هو الذي يضمن لها نصرة المنتجين الآخرين لأهدافها وعدم انفراط عقدها. أما إن سلكت"أوبك"طريقاً غير هذا واستمر أعضاؤها في تجاهل حصصهم والخروج عليها فإن الدول المنتجة الأخرى ستضع في أذن طيناً وفي الأخرى عجيناً ولن تصغي إلى"أوبك". فإذا كانت"أوبك"لا تلتزم سقف إنتاجها فإن الدول الأخرى خارجها لن يكون أمامها سوى الإنتاج بكل طاقتها ولا لوم عليها ولا تثريب، وهذا يؤدي إلى انفراط نظام سوق النفط الدولية وضرب الأسعار في الصميم، وتغرق السفينة بالجميع والكاسب الوحيد - في هذه الحال - هو الدول الصناعية التي صدرت وكالة الطاقة الدولية للدفاع عن مصالحها وحققت أهدافاً نظيفة في مرمى"أوبك". نشر في العدد: 16913 ت.م: 25-07-2009 ص: 11 ط: الرياض * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية