عندما أعلن مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران تثبيت فوز محمود احمدي نجاد، من دون أن يقيم أي اعتبار لاعتراض منافسه مير حسين موسوي، اعتبر المراقبون أن رمز النظام أصبح طرفاً لا حكماً، خصوصاً بعد اعترافه بأنه يدعم نجاد الى ولاية ثانية نظراً لتقاربه معه في الآراء. ورأى المرشح الاصلاحي مهدي كروبي في الموقف المنحاز الذي اتخذه المرشد، خروجاً على نظرية"ولاية الفقيه"التي رفعها الإمام الخميني الى مستوى الإمام المعصوم وجعلها ولاية مطلقة على الأنفس والأموال. وبعد وفاة الخميني تعرضت هذه النظرية للانتقاد كونها تلغي الدور السياسي للأمة، ويصبح الفقيه في موقع مقدس لا يحق للأمة معارضته أو عصيانه. ومعنى هذا أن دور الأمة معه يتعدى دور الطاعة بحيث يلغى حق الشورى في خلعه أو تحديد صلاحياته ومدة رئاسته. ومع أن المراحل الصعبة التي قطعتها الثورة الايرانية خلال الثلاثين سنة الماضية، قد قلصت نفوذ وريث الخميني المرشد علي خامنئي، إلا أن سلطاته الواسعة ظلت أعلى من كل المراتب الرسمية. لذلك حاول أن يحمي مرشحه المفضل محمود احمدي نجاد عن طريق إعلان دعمه المطلق له، وتحذير خصومه من عواقب انتقاده لأنه يتبنى كل طروحاته وآرائه السياسية. واتهم المرشحين الأربعة الذين وافق على مؤهلاتهم الانتخابية، بتجاوز الخطوط الحمر لأنهم تجرأوا على المطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات المزورة. وقد اقترح الرئيس السابق محمد خاتمي تشكيل هيئة حيادية ومنصفة تكون محل ثقة المعترضين على نتائج الانتخابات، شرط أن يقبل الجميع بحكمها. وكان من الطبيعي أن يرفض علي خامنئي هذا الاقتراح الذي يتهمه بصورة غير مباشرة بالانحياز وعدم الانصاف لأنه لم يكن محايداً، كما تقضي مسؤوليات الحكم وقاضي القضاة. والملفت أن المرشد الأعلى حرص على التدخل لاطلاق سراح خمسة من أقارب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني من بينهم ابنته فائزة. وكانت شرطة مكافحة الشغب التابعة للحرس الثوري، قد اعتقلت عدداً كبيراً من المتظاهرين في ميدان"أزادي"في طهران بحجة المشاركة في تظاهرة غير مرخصة. ويستدل من الشهادة العلنية التي قدمها خامنئي في صديقه القديم رفسنجاني، أنه يريد تحييده عن المعركة التي قرر خوضها ضد الاصلاحيين وأنصارهم. لذلك برأه في خطابه من اتهامات احمدي نجاد الذي وصفه عبر شاشة التلفزيون، بمستغل السلطة ومشجع الفساد. وعلّق المرشد على هذه الاتهامات بالقول إن"رفسنجاني لم يستغل أي مال لمصالحه الشخصية، بل دعم الثورة والنظام بأمواله وعرّض حياته للخطر، وهو حالياً يقف الى جانب القيادة". وفي رأي آية الله حسين علي منتظري، أكبر رجال الدين المعارضين، أن خامنئي يرد الجميل الى رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، لأنه هو الذي تبنى ترشيحه لمنصب مرشد الجمهورية في وقت كانت غالبية أعضاء مجلس خبراء القيادة، تعارضه. وقد بثت إحدى القنوات هذا الاسبوع، صور جلسة الانتخابات التي أظهرت رفسنجاني أثناء ادعائه ان الخميني أطلعه على سره في ضرورة اختيار خامنئي وريثاً له. ويبدو ان الأعضاء تأثروا بشهادة رفسنجاني أثناء التصويت، وحسموا الأمر لصالح مرشحه المفضل. في ضوء هذه الخلفية يتساءل المحللون عن الاسباب الخفية التي شجعت رفسنجاني وكروبي وخاتمي وموسوي وكبار الاصلاحيين على الوقوف ضد سياسة آية الله علي خامنئي. في عهد جورج بوش الإبن، وضعت واشنطنايران على قائمة دول"محور الشر"الارهابية مثل عراق صدام حسين وكوريا الشمالية. وكان أول من تنطح للرد على هذا التصنيف رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الرئيس السابق رفسنجاني وصديقه رئيس مجلس الشورى كروبي. فقد اتهما الولاياتالمتحدة بالتحول السياسي لأنها لا ترى في المنطقة غير اسرائيل، ولأن استفزازاتها المتواصلة تقوي تيار التطرف وتضعف تيار الاعتدال. وأكبر مثل على ذلك، كيف تعاملت كوندوليزا رايس مع الانفتاح الذي أظهره الرئيس محمد خاتمي، مطلق شعار"حوار الحضارات"بديلاً من شعار"صدام الحضارات". ولما طُرحت المبادرة العربية في قمة بيروت سنة 2002 تحفظ وزير خارجية ايران على بعض بنودها، ولكنه وافق على محتواها وأهدافها. ومع هذا كله، لم تظهر واشنطن المرونة المطلوبة حيال ما وصفه كبير المفاوضين علي لاريجاني، بالملف النووي للأغراض السلمية. وظلت تضغط على دول مجلس الأمن من أجل تشديد العقوبات وعزل ايران. عندما زار الرئيس العراقي جلال طالباني طهران، طلب من علي خامنئي تزويده برسالة شفهية الى جورج بوش. وبعث معه رسالة مختصرة جداً خلاصتها"ان سياستنا تجاه الولاياتالمتحدة تتوقف على مدى احترامكم لشرعية النظام الذي أرسينا دعائمه في بلادنا". وكان واضحاً من مضمون هذه الرسالة ان ايران على استعداد للانفتاح على واشنطن شرط التوقف عن محاولات اسقاط النظام الجمهوري الاسلامي. ذلك ان الفريق"المتصهين"داخل إدارة بوش، كان يسعى الى عزل ايران وزعزعة نظامها بحجة انه يحيي نظام محاكم التفتيش التي نشطت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر في اسبانيا. وهو نظام تعسفي تجاوز عصمة البابا في الأمور الدينية، لينصب نفسه وكيلاً عن العزة الإلهية - دينياً ودنيوياً - في مهمة اكتشاف الهراطقة ومعاقبتهم. ويرى المراسلون في طهران ان هذه المقارنة بعيدة عن الحقيقة. ذلك ان بعضهم اكتشف أثناء التظاهرات، عنصراً جديداً مشاغباً هو"سينيور غوتشي". اي مصمم حقائب النساء الفاخرة التي ظهرت خلف أعلام المعارضة والأشرطة الخضر. كما ظهرت بين هذه الصفوف نظارات"برادا"الشمسية وساعات يد"لوي فتيون"وأحذية"أرماني". والملفت ان هذه الطبقة قاطعت انتخابات 2005 التي فاز فيها أحمدي نجاد، في حين دعمته الأكثرية في الأرياف والقرى النائية. وبدلاً من ان ينتقم الرئيس نجاد من البورجوازية الايرانية خلال مرحلة الازدهار الاقتصادي نتيجة ارتفاع اسعار النفط، قرر التغاضي عن نشاطاتها الاجتماعية حرصاً على إبعادها عن السياسة. في كتابه"حديقة الورد"وصف مراسل"الايكونومست"كريستوفر دوبليغ الطبقة البورجوازية في ايران بأنها تستمتع قبل الظهر بلعب الغولف وتنشغل بعد الظهر بعمليات الوشم على الأجساد وزيارة عيادات أطباء النفس. ويبدو ان الضائقة المالية المتعاظمة قد اخرجت الطبقة الوسطى عن صمتها ودفعتها للخروج إلى الشارع بتحريض من القيادات المعارضة التي تهمشت في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد. ومع هذه التظاهرات يرتفع السؤال الكبير حول أسباب الأزمة، وما إذا كانت في حقيقتها سياسية أم اقتصادية؟ المراقبون في طهران يقولون إن الأسباب مختلطة بين السياسي والاقتصادي... أو بين ما يريده الناس وبين ما يسمح لهم النظام بالحصول عليه. ففي الجانب الاقتصادي كثير من السياسة لأن الرئيس نجاد بتوجيه من المرشد، أعطى"الحرس الثوري"الحق في احتكار ما كان يعرف بحقوق التجار وأرباب العمل. وبين ما حصلوا عليه عقود تنمية في حقل فارس للغاز الطبيعي بقيمة ثلاثة بلايين دولار، إضافة إلى عقد بتكلفة بليون ونصف البليون دولار لمد أنبوب غاز يبلغ طوله تسعمئة كلم بين"حقل فارس"وجنوب شرقي البلاد. ويتردد في طهران أن"الحرس الثوري"وقع اتفاقات على تنفيذ أكثر من ثلاثمئة مشروع أخذها من أمام المتعهدين والشركات. وذكرت الصحف أن محمود أحمدي نجاد كان يمنح عقوداً لحراس الثورة من دون استدراج عقود عندما كان رئيساً لبلدية طهران. وكان بهذه الترضية يكافئهم على انجازاتهم السابقة في تثبيت قواعد الثورة وتحييد دور المؤسسة العسكرية النظامية التي أنشأها الشاه. وفي سنة 1982 تشكلت أول وزارة خاصة بحرس الثورة الباسدران حيث باشرت عملها بتصدير الثورة إلى لبنانوالعراق والبحرين وأفغانستان. وكثيراً ما كان هذا الفريق المُقدر عدد أفراده بأكثر من ربع مليون، يتخطى قرارات الحكومة والجيش النظامي. ويوم أمر الخميني رفسنجاني بوقف الحرب مع العراق سنة 1988، حاول الحرس اغتياله، مثلما حاولوا بعد ذلك سنة 1990 عقب حدوث الزلزال في الشمال وإعلانه قبول مساعدات من دول غربية. في السنوات الأربع الأخيرة نجح الرئيس نجاد بواسطة"الحرس الثوري"، في اقصاء الاصلاحيين عن الحكم، وفي الوصول إلى مختلف مراكز صنع القرار بدءاً بمكتب المرشد الأعلى خامنئي... مروراً بالمجلس الأعلى القومي... وانتهاء بالأجهزة الإعلامية والمؤسسات الاقتصادية والخيرية. ويرى المحللون أن الانتفاضة الأخيرة لم تكن ضد خامنئي شخصياً بقدر ما كانت ضد هيمنة"الحرس الثوري"الذي منع الاصلاحيين من المشاركة في الحكم باسم حماية النظام، تماماً مثلما فعلت فرق ال"اس اس"في المانيا النازية التي افتعلت مجزرة الحزب الشيوعي في سبيل السيطرة على مقدرات النظام. وفي تقدير محمد خاتمي ان التظاهرات ستهدأ لأنها تفتقر الى التنظيم والانضباط، ولكن الحملات السياسية ستستمر طوال عهد نجاد. يضاف الى هذه العوامل المؤثرة، عامل آخر يتعلق بتهيئة مصباح يزدي، رئيس السلطة القضائية السابق، كي يخلف المرشد علي خامنئي. وربما ازدادت حظوظه بعد مرض خامنئي وتأييد نجاد له باعتباره كان مرشده الروحي قبل فوزه بالرئاسة وبعدها. وبما أن الاصلاحيين يعتبرون يزدي شخصية متشددة وقاسية، فإن معارضة ولاية نجاد الثانية ستكون جزءاً من الاعتراض على مرشحه لأهم موقع في الجمهورية الاسلامية. الديبلوماسيون العرب في واشنطن يرجعون أسباب الانتفاضة الى مشروع السلام الذي قدمه الرئيس باراك أوباما لإيران، مع وعد بإشراكها في إرساء استقرار العراق وافغانستان ولبنان. وقد فوجئ علي خامنئي بهذا العرض المغري، خصوصاً أن خلافه مع جورج بوش لم يفسح المجال لأي تسوية من النوع الذي عرضته واشنطن على كوريا الشمالية. وبما أن الدخول في ديبلوماسية هذه التسوية قد يعرض قاعدته الأمنية والسياسية للانفراط أو الانشطار، لذلك آثر اتهام اميركا وبريطانيا بتنشيط المعارضة لعله يحافظ على دوره من خلال إبقاء الخلاف قائماً بينه وبين هاتين الدولتين المعروفتين بتاريخهما السيئ مع ايران. ولكن هذا الاخراج لم يرق لزعماء التيار الاصلاحي الذين رأوا في مشروع أوباما فرصة لاقصاء المحافظين المتشددين عن الحكم. لهذا شجعوا الانتفاضة كخطوة أولى في مسيرة السنوات الأربع. ومن شأن هذه الخطوة أن تخيف الشركات العالمية من الاستثمار في حقل الطاقة. وهذا معناه تأخير إنشاء مشاريع جديدة للنفط والغاز الطبيعي. في الوقت ذاته، أعلنت إدارة الرئيس أوباما أنها قررت تعيين سفير لها في دمشق، بعد مرور أربع سنوات على سحب إدارة بوش سفيرته مارغريت سكوبي. وقد تعاملت طهران مع هذه الخطوة بكثير من الحذر لأن السلام العربي - الاسرائيلي يضعف دورها الاقليمي ويدفعها الى العزلة بعيداً عن المياه الدافئة في لبنان وغزة! * كاتب وصحافي لبناني نشر في العدد: 16885 ت.م: 27-06-2009 ص: 17 ط: الرياض