تدور حوادث كتابي الاخير في القرن السابع عشر. تعمدت التمييز بين العنصرية والعبودية، ونقل واقع العبودية في قرن كانت فيه شأناً سائراً وشائعاً ومنفصلاً من العنصرية. ولم أقع على مملكة أو إمبراطورية، سواء كانت في روما أو أثينا أو مصر، لم تنهض على أكتاف الرقيق. ولم يسبق أن تناولت الاعمال الروائية هذه الحقبة من التاريخ الاميركي. وفي أميركا القرن السابع عشر، لم يكن العبيد من أصحاب البشرة السوداء، بل من البيض. وفي المبدأ، وسع هؤلاء التحرر من العبودية لقاء تسديد مبلغ من المال. ولكن الانعتاق من العبودية لم يكن في متناولهم فعلياً. وفلورنس هي بطلة روايتي. وهي عبدة شابة فتية وبريئة، وضعيفة يتنازعها الشك، ولا تعتد بنفسها. فوالدتها وهبتها الى رجل غريب على أمل أن يوفر لها حياة كريمة. وطوال أعوام، لا تفكر فلورنس في مكانتها الاجتماعية. وتبدأ بكره نفسها وادراك عبء لون بشرتها، بعد أن نبذها البوريتانيون المتزمتون لأسباب دينية غير عرقية. ورأى هؤلاء ان لون بشرتها يشبه سحنة"الشيطان، الرجل الاسود". وربط العبودية في أميركا بالعرق وثيق الصلة بالسلطان وحسابات الربح. فألد أعداء ملاكي الاراضي الكبيرة هم جماعات ال"بدون أرض"، أو"البدون"الذين لا يملكون الارض، ومنهم البيض والسود والعبيد، والاحرار، والهنود. وانتفض هؤلاء على نخبة الملاكين. وأطاحوا حاكم فيرجينيا. ولكن تحركهم فشل، وشنق المشاركون فيه. وفي هذه الحقبة، سُنّت قوانين تجيز للبيض قتل السود أو بتر أجزاء من أجسادهم، وترفع قيد المساءلة عنهم. ومُنح البيض غير النافذين هذا الامتياز للعدول عن المشاركة في حركة الاعتراض. ومراتب الاعراق غير طبيعي، وليس مرآة علاقات ثقافية، بل هو بنية ثقافية تكتسب، ويعصى على الاطفال فهمها. ووالدي كنّ عداء كبيراً للبيض، وكرههم. ولم يدع، يوماً، زملاءه في العمل الى منزله. فهو نشأ في ولاية جورجيا الى حين بلوغه ال14 من العمر، ورأى رجالاً سوداً يُسحلون في الشوارع بذريعة رفضهم التنازل عن ارضهم للبيض. وفي أوهايو، لم ننزل في حي مخصص للسود. وفي كليفلاند، نشأت في منطقة لا يزيد عدد سكانها من السود عن 12 في المئة. وهذه المنطقة تشبه العالم الذي أصفه في روايتي. فهي عالم مهاجرين فقراء من البولنديين والايطاليين واليونان والمكسيكيين. وعلاقات الجوار بينهم وطيدة. ووالدتي تعلمت وصفات أصناف طعام من جاراتنا المجريات. وقالت لي والدتي أنها، على خلاف والدي، تحكم على الشخص بناء على أعماله، وليس على انتسابه الى جماعة. ووالدتي نشأت في ألاباما، ولم تشهد أعمال العنف، على خلاف أبي. وغادرت عائلتها المنطقة يوم أدركت والدتها أن أوان الرحيل حان. فبناتها بلغن سن البلوغ. وبدأ الشباب البيض يحومون حول منزلهن. فوضبت الحقائب، ورحلت مع أولادها السبعة عن ألاباما، وكتبت لزوجها الذي يعمل في بيرمينغهام تبلغه قرارها، وتطلب منه اللحاق بهن. والسحل هو أكثر ما يخشاه الرجال السود، ومنهم والدي. وألفت نساء السود فكرة الاغتصاب، في وقت لم تكن يملكن فيه حق الادعاء على المغتصب والمعتدي. وشاركتُ في حركة الحقوق المدنية في الستينات. وفي 1964، قصد عدد من طلابي الناشطين في الحركة، ومنهم ستوكلي كارمايكل أحد قادة"الفهود السود"، الجنوب اميركي ليسجلوا السود على لوائح الاقتراع. وفي العام نفسه، دخلت الى عالم دور النشر لأنشر أعمالاً تحفظ ذاكرة هذه الحوادث، في وقت رفض ناشرون آخرون نشرها. ونشرت كتب أنجيلا دايفيس، ومحمد علي كلاي، وروايات أدباء سود مثل هيوي نيوتن وديوان الشاعر هنري دوما. ووضعت نصب عيني ان أسهم في انتشار أدب السود، على نحو ما خرجت موسيقى الجاز من أوساط الجمهور الاسود الى العالم. ورواياتي ليست موجهة الى الافارقة الاميركيين وحدهم، على رغم أن ثقافتهم هي محور اعمالي. وفي كتابي"العين الأكثر زرقة"الصادر في السبعينات، رويت قصة فتاة صغيرة سوداء تريد أن يتغير لون عينيها، وأن تصبحا زرقاوين. ولكن دعواتها لا تستجاب. وأردت في هذه الرواية أن أذكر الناس بما يميلون الى نسيانه. فطوال أجيال، لم يستسغ السود أشكالهم وسحناتهم. ولم ينظر النقاد السود الى روايتي هذه بعين الرضا، وأخذوا عليّ الكشف عن عُقدنا ومكامن ضعفنا على مرأى من البيض. وقيل"يجب الا يعرف البيض هذه الامور". ولكني لم أترك هذا الضرب من الكتابة. ومارس ادباء سود كثر، من أمثال رالف ايليسون وريتشارد رايت وجايمس بالدوين، رقابة ذاتية على أنفسهم عند وصف أحوال جماعاتهم. ولم تبارحهم فكرة أن البيض سيقرأون أعمالهم. ومأساة الرجل الاسود ان حق الدفاع عن زوجته أو ابنته لم يعط له، في الماضي. فمثل هذا الدفاع عاقبته السحل. ولذا، يحتقر الرجل الاسود المرأة. ووراء تملق ميشال اوباما، والقول إنها نموذج استثنائي للأم السوداء، أفكار سلبية منمطة منتشرة في أوساط البيض عن الاسر السوداء الفاشلة. ولكن ميشال أوباما هي امرأة سوداء عادية، على رغم أنها حصّلت تعليماً جامعياً استثنائياً. فمسار عائلتها لا يشذ عن نموذج العائلات السود. فهي نشأت في كارولاينا الشمالية، وانتقلت مع عائلتها الى شيكاغو بحثاً عن فرص العمل والترقي الاجتماعي. وتنازعتني مشاعر متضاربة في حملة الانتخابات الرئاسية بين المرشحين الديموقراطيين، هيلاري كلينتون وباراك أوباما. وملت الى تأييد هيلاري كلينتون. وأنا لا أخفي اعجابي بها وبذكائها. وخلّف كتاب أوباما"أحلام والدي"أثراً كبيراً في ذهني ومشاعري. فأوباما يملك موهبة نادرة في عالم رجال السياسة، وهي موهبة وصف مشاهد الحوار والقدرة على استبطان ما يجري، ونقله نقلاً دقيقاً. واتصل بي أوباما، وطلب مني تأييده في حملته. ولكني رفضت، على رغم وساطة رجال بيض نافذين وأثرياء. وتابعت حملته. ووجدت أنه أنيق وهادئ و"كول"لذيذ. واكتشفت أنه رجل صلب، وأنه مصيب في الكلام على الفساد، وأزمة التأمين الصحي، والمخاطر المحدقة بالبلاد. فوجهت له رسالة دعم علنية أيدت فيها سياسته، وأبديت فيها ايماني بذكائه وحكمته. وأوافق أوباما القول إن"قصته مستحيلة في بلد آخر". ويكاد أن يكون بلوغ امرئ عادي سدة السلطة مستحيلاً في بلد غير الولاياتالمتحدة. والعنصرية لم تطو في أميركا. ولكننا تخطينا صعاباً كثيرة. وأنا اعرف حق المعرفة أن أحداً لن يوظفني في فرنسا، على رغم أنني حزت جائزة نوبل، وأستاذة شرف في جامعة برينستون. فمن الجائز أن ينتخب رجل يتحدر من اقلية أوروبية نائباً في برلمان بلاده، ولكنه لن ينتخب رئيساً. * روائية حائزة على جائزة نوبل للآداب، عن"لكسبرس"الفرنسية، 23/4/2009، اعداد م. ن. نشر في العدد: 16833 ت.م: 06-05-2009 ص: 27 ط: الرياض