تحتلُّ مسألة الحمائية مساحةً واسعةً في القمم والاجتماعات التي تعقدها مجموعات الدول وتخصصها لدرس الآليات الهادفة إلى إنقاذ الاقتصاد العالمي. وأثير موضوع الحمائية، كردٍّ على إجراءات اتخذتها دولٌ متقدمة اقتصادياً من أجلِ تحصين اقتصادها، كلٌّ واحدة في موقعها. وأثار إقدام الولاياتالمتحدة وفرنسا وألمانيا، على مساعدة صناعة السيّارات ورفدها بالمال، تساؤلاتٍ حول الفارق بينها وبين ما كانت تقدّمه بلدانٌ في الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة بالذات، من مساعداتٍ إلى الزراعة وحماية منتجاتها، لم ترضَ عنها بلدانٌ ناشئة، وتسببت في تأخير اتفاقاتٍ ضمن منظمة التجارة العالمية. وبدت ظاهرة الحمائية الجديدة، نتيجة تداعيات أزمة المال العالمية، متعددة الوجوه، فهي لا تنحصر بما يتم تصديره واستيراده من سلع، بل تطاول أيضاً الخدمات، بخاصّةٍ المالية والمصرفية، تالياً سائر الخدمات التي يقدمها العمال الجانب. وألزمت حزم الإنقاذ المالي للمصارف المتعثرة، المصارف المستفيدة، بعدم الاستثمار أو تقديم التسليفات إلى مستفيدين في بلدٍ آخر... وبرزت سلوكيات فردية أو جماعية سبقت خطط الحفز الحكومية، فسحب مستثمرون أجانب أموالهم من أسواق المال وتسببوا بانهيار الأسهم المحلية والعالمية وخسارتها تريليونات الدولارات. وتواجه الاتحاد الأوروبي، تحدياتُ مصارف البلدان الأعضاء فيه من أوروبا الشرقية، بعد أن سحب مستثمرون ومصارف من أعضاء غربيين، ودائعهم من مصارفها. وهكذا لم تعد الحمائية تنحصر في التبادل التجاري السلعي، ورد الفعل على عبارة"اشترِ أميركياً"تضمنتها خطة الإدارة الأميركية للإنقاذ، بل تعدتها إلى مجالات أخرى. فالترويج لشراء السلع والمنتجات الوطنية مستمرٌ في ظل العولمة وتحرير التبادل التجاري، ولا يزال في ظل الركود الاقتصادي ويهدف إلى حفظ قطاع الصناعة الوطني في كل بلد وتعزيز فرص العمل فيه، تمهيداً لتحسين الدخل فالإنفاق والازدهار. ومن دون ازدهار اقتصاد بلدٍ ما وتعزيز القدرة الإنفاقية المحلية، لا يمكن للتبادل التجاري أن ينمو ويزدهر بين الدول، سواء لناحية المواد الأولية الأساسية أو للمنتجات المنتهية الصنع. وواجهت البلدان الاقتصادية المتقدمة الحمائية منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما باشرت بريطانيا فرض رسوم جمركية على الواردات، ومن ثم هيمنت السياسة الحمائية وتلتها نزاعات سياسية، داخل البلدان بهدف امتصاص الرسوم الجديدة أو إلغائها أو تشريع قوانين خاصة تشبه"قوانين الذرة"في بريطانيا ذاتها. وكادت العولمة تقضي على هذه التحصينات الحمائية نهائياً لولا أزمة المال الراهنة التي تحوّلت إلى إعصار اقتصادي يجتاحُ أعتى اقتصادات العالم. وازداد قلق مؤيدي التبادل الحر من إشارات ليست"بريئة"بدأت قبل شهور، فأعلنت الهند زيادة الرسوم الجمركية، ضمن الهوامش المسموح بها. وقرّرت روسيا أنها ستحمي قطاع صناعة السيارات، وفرضت الولاياتالمتحدة رسوماً تساوي 300 في المئة على الجبنة الزرقاء الفرنسية تباشر في تطبيقها في 23 آذار مارس الجاري، إلى زياداتٍ على رسومٍ أخرى، كنتيجةٍ لرفض الأوروبيين استيراد الأبقار الأوروبية المطعمة بالهورومونات. وسجّلت منظمة التجارة العالمية إشارات اعتمدتها دولٌ تحت ستار محاربة"الإغراق"، لمحاربة السلع الصينية. وتصاعدت موجة"المواطنية الاقتصادية"، الهادفة إلى حماية منشآت استراتيجية من مراقبة أجنبية. وإذا كانت القوانين تجاه الاستثمارت الأجنبية تساهلت أكثر فإن قوانين الحمائية ازدادت وارتفعت من 4 في المئة عام 2000 إلى 25 في المئة في 2007، بحسب تقرير ل"مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية". وتحت ستار الأخذ بجودة المنتج وتحسين التنافسية لجأت بلدانٌ كثيرة إلى مظلتها لحماية منتجاتها. ومعروفٌ ان معايير الجودة تهدف إلى تأمين إنتاج تتوافر فيه مواصفاتٌ تخضع إلى مقاييس معترف بها عالمياً، تؤمن سلامة المنتج وجودته ولا تتسبب بضررٍ صحي للمستهلك، وتتوافق جودته مع سعره. وعلى رغم توافر معايير"أيزو"العالمية التي يعترفُ بها الجميع، تفرّدت كل دولةٍ أو مجموعةٍ بمعايير خاصة، لم تستطع منظمة التجارة توحيدها. أهم المعايير الأوروبية والأميركية، لكن حتى البلدان الأصغر اعتمدت معاييرها الخاصة وشكّلت هيئاتٍ ولجان وأنشأت مختبرات تشرفُ على سلامة الواردات، ما عطّل جزءاً كبيراً من الحرية التجارية ضماناً لترويج البضائع الوطنية. وكما تهدف المواصفات القياسية إلى خفض تكلفة الإنتاج وتيسير انسياب السلع عبر البوابات العالمية وتوفير الميزات التفاضلية لها من أجل تحقيق التنافس المريح، تهدف الإجراءات الحمائية"الخجولة"، إلى تحقيق ديمومة المنشآت الإنتاجية. وفي هذا السياق يمكن إدراج فشل منظمة التجارة عقد أي اتفاق لإقرار اتفاق جولة الدوحة، على رغم توصية قمّة العشرين الأولى بتسريع الاتفاق حولها. فهل تعودُ الحمائية من خلال معايير جديدة تهدف إلى تحقيق التنافسية؟ نشر في العدد: 16775 ت.م: 09-03-2009 ص: 22 ط: الرياض