أثارت عبارة"اشترِ أميركياً"، وردت في مسودة مشروع خطة الإنقاذ الاقتصادي للرئيس الأميركي باراك أوباما، ردوداً أوروبية مستنكرة، أكثر من احتجاجات أي منطقةٍ في العالم. فالعبارة، وإن كانت تهدف إلى تحصين الإنتاج الأميركي، وتالياً النهوض به بما يوفر فرص عمل وزيادة دخلٍ، فإنفاق أكثر يلبي الهدف من الخطة الأميركية، إلا أنها تدمر حرية التبادل التجاري وانسياب البضائع عبر بوابات العالم بمقتضى اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وقد استغرق إعدادها أكثر من نصف قرنٍ، ولمّا تبلغ خواتيمها في انتظار التوافق على محادثات جولة الدوحة. وحصر المشتروات الوطنية بسوق الوطن الأم أو بلد المنشأ ذاته، يقضي على شروط الانتساب إلى عضوية المنظمة الدولية، وهي شروط تلغي الحمائية، كما تلغي دعم الإنتاج التصديري. وتراقب إدارة منظمة التجارة حالياً الاتجاهات الخفية للحمائية، وتتمثل، لغاية الآن، بفرض رسومٍ جمركية على سلع، أهمها يحملُ"صنع في الصين". فمفاعيل أزمة المال، وقد تحوّلت إلى أزمة اقتصاد شمولية، فانكماشٍ فركودٍ قد يطول لثلاث سنوات، دفعت دولاً إلى إنقاذ قطاعات إنتاجها، فتعددت أوجه هذا الإنقاذ بدءاً من دعم الصناعة، تتقدمها صناعة السيارات، وانتهاءً بدعم التصدير كما فعلت الصين للنسيج والألبسة، مروراً باللجوء إلى رسوم جمركية فرضتها أميركا والاتحاد الأوروبي، وتفكر في اعتمادها دول أخرى، بعضها دول من المغرب العربي. تبحث حكومات دول العالم، أمام سدود الأزمة المستعصية، عن طوق نجاةٍ مناسبٍ. الاقتصاد الغريق لا ينتظرُ نتائج حوارات ونقاشات أو توقعات. لا بد من الانتشال أولاً ومن ثم تنظيم المستقبل. فالتبادل التجاري العالمي سيخسر هذه السنة أكثر من اثنين في المئة من قيمته، وتبادل الخدمات خمسين في المئة قياساً إلى تحويلات العاملين في الخارج إلى أوطناهم، ما يزيد من قساوة تداعيات الأزمة. ويؤدي الانكماش المتفشي، إلى انهيار مستويات الإنفاق الداخلي. هذا الإنفاق هو الحصن المتين للاقتصاد ولمؤشر نموه. فضلاً عن تلاقي حلقات السلسلة التي تتناقل عدوى وافدة الانكماش، فتنهار متلاصقةً مثل أحجار الداما. فالنهوض الاقتصادي، يبدأ إذاً من الحلقة الداخلية، تحصين الصناعة وتعزيز إنتاجيتها. هي تزيد فرص العمل. تعزّز الدخل. تنمي الإنفاق. وأمام فرصة العمل الواحدة في الصناعة تتوافر فرصتان في القطاعات الأخرى. لكن الالتفات إلى تحصين الداخل، يضيم الدول المتقدمة اقتصادياً ذات الإنتاج الصناعي المتشابه والغالي. يهدد البلدان ذات الاقتصادات، الناشئة ذات الهيكليات الاقتصادية اللينة. ويزيد البلدان النامية فقراً، فترتب عبئاً مالياً عالمياً لا تستطيع الدول المتقدمة تلبية حاجاته. وفي النهاية يهدم أنظمة التجارة العالمية، ثم العولمة الاقتصادية. لقد شكل الخوف من الحمائية محور مناقشات في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس قبل أيام. فشهد المنتدى نداءات تنبه من ردة الفعل الحمائية للأسواق المحلية، في مواجهة أزمة المال والاقتصاد. وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة المصري في اختتام المنتدى ان"الحمائية قد بدأت بالفعل وستستمر". وأكد مدير منظمة التجارة العالمية باسكال لامي انه رصد العديد من"النقاط الحمر"في مراقبة السياسات التجارية. وأوضح ان المسؤولين"يخضعون لضغوط سياسية داخلية وما يسمعونه في دولهم هو ان التجارة يجب ان ترمى في سلة المهملات". ويضيف ان"ذلك مدعاة قلق بالنسبة إليهم وبالنسبة إلي". وتنتقد منظمة التجارة العالمية دولاً لعدم فتحها أسواقها في شكل كاف. لكن خطة واشنطن للإنقاذ الاقتصادي التي شملت حماية صناعة الصلب الاميركية عززت في دافوس مخاوف من تراجع التجارة العالمية. والتزم لامي البقاء"يقظاً". لكن ذلك لن يكون كافياً للدول التي تعتمد شتى أنواع العوائق غير الجمركية مثل المعايير وشهادات المنشأ، لحماية صناعاتها. وفي مطلق الأحوال فالنظام الاقتصادي المنتظر قد يعيد النظر في إطار العولمة التي يراها كثرٌ أنها سبب البلايا. وتدرس قمة العشرين مصير جولة الدوحة. لكن قيامة الاقتصاد لن تتم من دون اللجوء إلى آلية جديدة من الحمائية! نشر في العدد: 16747 ت.م: 09-02-2009 ص: 22 ط: الرياض