في ما تحتفل إيران بمرور ثلاثين عاماً على انتصار ثورتها، يشهد"النظام السياسي"الذي يدير"الجمهورية الإسلامية"حالة من الاستقرار والثبات مع بعض التغييرات غير الأساسية التي تحدث بين فترة وأخرى على صعيد مؤسسات الحكم او من خلال اقامة"جهاز جديد"لضبط الصراعات والخلافات أو لاستيعاب بعض قادة الجمهورية كما حصل قبل سنوات عبر إقامة"مجمع تشخيص مصلحة النظام"والذي ترأسه هاشمي رفسنجاني وضم رؤساء الجمهورية السابقين وبعض قادة حرس الثورة والمؤسسات الدينية. وعلى رغم التنافس الحاد المتوقع على صعيد معركة رئاسة الجمهورية والتي ستجرى في حزيران يونيو المقبل بعد قرار الرئيس السابق محمد خاتمي ترشيح نفسه، فإن موقع"الرئاسة الأولى"في إيران يظل خاضعاً لتوازنات مراكز القوى داخل النظام الإيراني وخصوصاً من خلال دور مرشد الثورة السيد علي خامنئي، ومؤسسة"الحرس الثوري"التي تمتلك نفوذاً مهماً في العديد من المؤسسات الرديفة كمؤسسات"الشهيد"و"جهاد البناء"و"التعبئة العامة"و"مجلس الأمن القومي"و"الحوزات الدينية". فكيف يتم اتخاذ القرارات الاستراتيجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وما هو الدور الذي يلعبه المرشد علي خامنئي في ادارة الصراعات داخل النظام؟ ومن اين يستقي حرس الثورة سلطاته وقدراته السياسية والأمنية والاقتصادية؟ وأي دور للمؤسسات الناظمة للخلافات كمجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص المصلحة ومجلس الشورى ومجلس الأمن القومي؟ الدستورية الدينية يقول الخبير في الشأن الإيراني ومدير مركز"الحضارة لتنمية الفكر الإنساني"الشيخ نجف علي ميرزائي ان الخميني نجح في تحويل الفكرة الدينية للحكومة الإسلامية الى اطار دستوري من خلال اقامة سلسلة من المؤسسات الناظمة لإدارة الحكم في الجمهورية الإسلامية وعدم إبقاء طرحه السياسي والديني حول"ولاية الفقيه"محصوراً في دوره الخاص كمرجع وكقائد، وعند وفاته تحول هذه الطرح الى نظام متكامل بحيث لم تعد القيادة قائمة على الإشخاص مهما بلغت اهميتهم وأدوارهم الدينية او السياسية". ويضيف ميرزائي:"ان موقع ولي الفقيه أو مرشد الجمهورية والذي يتولاه خامنئي حالياً، لا يدير الوضع الإيراني من خلال شخصيته أو قدراته الذاتية بل عبر سلسلة من المؤسسات والإدارات والسلطات التي تضبط الخلافات وتحدد الصلاحيات، ما يعني أننا أصبحنا اليوم في إيران امام حالة جديدة من الحكم تجمع بين الدين والدستور أو ما يمكن تسميته"بالدستورية الدينية"، بحيث تحولت النظرية الدينية الى بنود دستورية لإدارة شؤون البلاد ولم يعد تطبيق النظام الإسلامي في إيران يحتاج الى تدخل"القائد"في شكل يومي أو تفصيلي في كل القضايا، ولكن هناك نظام متكامل يتولى توزيع الصلاحيات وإيصال الأوامر ويحدد ما يجب القيام به وما لا يجب". وعلى ضوء هذه الرؤية فإننا لم نعد امام"حكم الفرد"او تحت سيطرة مركز محدد من مراكز القرار، بل أمام نظام متشابك من الصلاحيات ومراكز القوى والقدرات الدينية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية، وهي تتداخل في ما بينها ويتم الفصل في الخلافات عبر أنظمة وهيئات متنوعة. مراكز القوى الأساسية لكن ما هي مراكز القرار والمؤسسات الدينية والدستورية التي تدير الأوضاع في إيران؟ يعتبر المرشد الأعلى والذي يتولى منصبه اليوم السيد علي خامنئي هو الموقع الأساسي والأقوى في قيادة إيران، ويستمد قوته من نصوص الدستور التي اعطته الصلاحيات للتدخل في القضايا الأساسية وتوقيع انتخاب الرئيس واختيار العديد من مسؤولي المؤسسات الفاعلة على الصعيدين السياسي والشعبي. وإن كانت قوة"المرشد"مستمدة أيضاً من خلال الجهاز الكبير الذي يديره والمتمثل بوكلائه وممثليه في كل المؤسسات والدعم الذي يحظى به من الحوزات الدينية والقوى العسكرية والأمنية والتي تشكل شبكة متكاملة من المصالح والقوى والتي تعتبر نفسها المدافعة الأساسية عن النظام. لكن على رغم القدرات غير التقليدية التي يتمتع بها"المرشد"فإن ذلك لا يعني ان سلطاته غير محدودة، فهو يتم انتخابه عبر"مجلس الخبراء"الذي يضم حوالى ثمانين مجتهداً ويتم انتخابهم من الشعب وينبغي تجديد الثقة بهم كل عدة سنوات، كما انه في بعض الأحيان قد تصطدم رغبات"المرشد"أو رغبات المقربين منه مع رغبات الشعب فتتغلب الثانية، كما حصل عند انتخاب الرئيس محمد خاتمي، حيث كان المقربون من خامنئي والأجهزة المرتبطة به يدعمون إعادة انتخاب الرئيس علي اكبر ناطق نوري وجاءت الانتخابات عكس ذلك ولم يكن امام خامنئي سوى الموافقة، وإن كان جرى تعطيل وإعاقة دور خاتمي خلال السنوات الثماني التي استلم فيها السلطات. وتأتي مؤسسة"الحرس الثوري"في المرتبة الثانية من مواقع القوة في إيران، وهذه المؤسسة معنية بحماية النظام والدفاع عنه وهي تضم مئات الآلاف من العناصر، إضافة لإشرافها على ما يسمى جهاز"التعبئة العامة"الباسيج والذي يضم ملايين العناصر. ولم يكتف الحرس بدوره الأمني والعسكري بل تخطاه الى مجالات الإعمار والاقتصاد والثقافة والإعلام، كما ان ضباطه وكوادره تغلغلوا في مؤسسات الحكم المختلفة وخصوصاً خلال رئاسة محمود احمدي نجاد ما جعلهم القوة الأبرز في إدارة البلاد. وتشكل المؤسسة الدينية القوة الثالثة من حيث التأثير والانتشار وهي تضم حوالى خمسمئة الف شخص بين عالم دين وطالب ومرجع ومجتهد ولديها امكانيات مالية ضخمة وإن كانت غير موحدة التوجه والرؤية ولكن غالبية المنتمين اليها يعتبرون ان استمرار النظام الإسلامي يحفظ دورهم ومصالحهم. ولم يكتف علماء الدين والطلبة بالدور التقليدي على صعيد الوعظ والإرشاد وتدريس الفقه والأصول، بل تحولوا الى قيادات سياسية وكوادر ادارية وأصحاب مصالح اقتصادية ومؤسسات متعددة الأهداف، إضافة إلى إقامة الجامعات والمراكز الفكرية والبحثية. اما القوة الرابعة الفاعلة فهي"البازار"أي التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية ويشكل هؤلاء احد مصادر القوة والضغط على اقطاب النظام في إيران ويحرص المسؤولون في إيران على رعاية مصالحهم وعدم الاصطدام بهم نظراً لفاعليتهم وقدرتهم على التأثير على الصعيد الشعبي والسياسي. المؤسسات الدستورية أما على صعيد المؤسسات الدستورية التي تدير نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية فهي تتوزع على الشكل الآتي: 1 - رئيس الجمهورية وينتخب كل أربع سنوات ويمكن التجديد له مرة واحدة وهو المسؤول عن السلطات التنفيذية ولكنه يلتزم الثوابت الاستراتيجية والسياسية التي يحددها المرشد الأعلى ومجلس الأمن القومي. 2 - مجلس الشورى وينتخب كل اربع سنوات وهو يوافق على تعيين الوزراء والمسؤولين الأساسيين في الإدارات ويتولى محاسبة ومراقبة السلطة التنفيذية ووضع القوانين الأساسية. 3 - مجلس صيانة الدستور ويضم عدداً من الفقهاء والقضاة والحقوقيين وهو يراقب القوانين التي يصدرها مجلس الشورى ومدى ملائمتها الدستور والشريعة الإسلامية وفي حال حصل خلاف في الآراء بين هذا المجلس ومجلس الشورى يمكن اللجوء الى مجلس تشخيص مصلحة النظام لحل المشكلات. 4 - مجلس الخبراء ويضم ثمانين مجتهداً ومهمته انتخاب المرشد الأعلى ومراقبة أدائه وإقالته عند الضرورة أو عند ارتكابه ما يخالف الإسلام أو أسس النظام وهو ينتخب مباشرة. 5 - مجمع تشخيص مصلحة النظام وتم انشاؤه منذ سنوات ولم يكن ينص عليه الدستور الأساسي وتولى رئاسته هاشمي رفسنجاني ويضم القادة الأساسيين للجمهورية ومهمته معالجة المشكلات الطارئة بين مختلف السلطات. 6 - مجلس الأمن القومي ويعمل بإشراف المرشد ودوره وضع الاستراتيجيات الأساسية للجمهورية الإسلامية. 7 - مجلس القضاء الأعلى والذي لديه سلطات مستقلة ويستطيع إحالة أي مسؤول على المحاكمة. وإضافة الى هذه المؤسسات الدستورية فإن في إيران مؤسسات فاعلة على الصعد السياسية والشعبية والاجتماعية وهي تلعب دوراً في الحياة العامة كمؤسسة الشهيد ومؤسسة التلفزيون والإذاعة ومؤسسات المجتمع المدني الجمعيات ووسائل الإعلام والقوى الحزبية من يتخذ القرار؟ على ضوء هذه الخريطة المتشابكة من مراكز القوى والمؤسسات الدستورية يصبح من الصعب حصر اتخاذ القرار بمؤسسة واحدة او بمركز محدد في إيران، ويصبح رئيس الجمهورية غير قادر وحده على اتخاذ القرارات أو تنفيذها من دون مراعاة الهيئات والجهات الأخرى. علماً أن هناك ثوابت وأسساً يتم تحديدها من قبل المرشد الأعلى ومجلس الأمن القومي يلتزم بها رئيس الجمهورية وبقية السلطات ولا يمكن تجاوزها، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة الأميركية أو الملف النووي أو على صعيد القضايا الحساسة التي تمس الأمن الإيراني الداخلي والخارجي. وعلى رغم اهمية شخصية رئيس الجمهورية والسلطات التنفيذية التي يتولاها فإنه لا يستطيع تجاوز الثوابت الأساسية في الجمهورية الإسلامية فموقع رئاسة الجمهورية يشكل نقطة التقاطع في مصالح إيران بين مختلف مراكز القوى وهو يمثل الحاجة الضرورية للنظام في اللحظة المناسبة، وكما ان انتخاب الرئيس محمد خاتمي أدى إلى تجديد النظام الإسلامي وإعطائه دفعة قوية من الشرعية الداخلية والخارجية، فإن مجيء نجاد شكل رداً قوياً على تجاهل المصالح الإيرانية من قبل اميركا والدول الكبرى ولذا فإن الرئيس المقبل سيكون من يستطيع التعبير عن المصالح الإيرانية الاستراتيجية في ظل التحديات المستجدة داخلياً وخارجياً. * صحافي لبناني