لا يملك زائر القاهرة، ولو للمرة المئة، إلا أن يندهش من مقدرة"أم الدنيا"على ابتكار أسباب الحياة وعلى تصريف الأيام مهما جارت الأخيرة أو قست، وهل أصعب من محاولة عيشٍ عادي في زمن غير عادي، ومداواة الأوجاع بالنكتة التي تختزل أحياناً ما يعجز عنه كتاب كامل؟ على ضفاف النيل الذي يجري بتكاسل وهدوء، تجري الحياة سريعة صاخبة، ويجري الناس بحثاً عن أسباب حياة، وتجري أمور وأحداث منها ملتقيان للشعر في آن واحد، أحدهما"رسمي"والآخر أكثر شباباً، وبعيداً من الجدل الدائر بين منظمي الملتقيين، لا يشعر زائر القاهرة تزامناً مع عقدهما أن الأصوات التي تعلو داخلهما قادرة على اختراق الجدران والوصول الى مسامع الناس وأفئدتهم في الشوارع والحواري والبيوت التي اشتاقت لسماع صوت تحسه صوتها وكلمة تكون كلمتها، بعد أن سئمت الثرثرة والكلام الأجوف والجعجعة التي تنتج طحيناً ولا تطمح لرغيف أو لقمة ساخنة. أصدقاء كثر وبينهم كتّاب وممثلون وإعلاميون لم تصلهم أنباء"داحس والغبراء"الشعرية ولم يسمعوا بعقد ملتقيين للقصيدة على أرض الكنانة، وليس في الأمر تقليلٌ من تجارب مشاركة هنا أو هناك، بل إشارة الى انصراف السواد الأعظم عن الشعر وشؤونه وشجونه أو الى ابتعاد الشعر عن الناس وشؤونهم وشجونهم. طبعاً ليس المطلوب من الشعر أن يكون بياناً على طريقة"الواقعية الاشتراكية"ولا من الشاعر أن يكون"ناطقاً رسمياً"باسم القبيلة على طريقة العرب الأقدمين، لكن هل يكون الفن فناً إذا لم يلامس الوعي والوجدان وإذا لم يحرك ساكناً في العقل أو القلب؟ وإلا كيف نفسّر خلود ابداعات على مر السنين وفناء أخرى بعد أيام. الإبداع الإنساني الحقيقي هو ما ينفذ الى الأعماق ويسكن فيها، وكل ادعاء سوى ذلك ما هو إلا تبرير للعجز والفشل وغياب الموهبة والمقدرة على الابتكار. داخل التاكسي على كورنيش النيل يتعالى صوت"أم كلثوم": حيرت قلبي معاك. والسائق الودود يحدثني عن"الست"وأغنياتها الباقية في الأعماق، علماً أنها رحلت قبل ولادته، حماسته تذكّرني بأن الاسطوانات الأكثر مبيعاً لا تزال تحمل أسماء: أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم، فيروز، فريد، أسمهان وسواهم ممن جعلوا حياتنا أخف وطأة، ولا يستغربن أحد أن خلف موجة الاستهلاك الطافية على السطح والتفاهة التي تملأ الشاشات ينحاز السواد الأعظم من الناس الى كل ما هو صادق وحقيقي لأن الفطرة الإنسانية تستطيع بالبداهة تمييز الغث عن السمين، وليست صحيحة أبداً مقولة"الجمهور عايز كده"التي يروج لها البعض ويتبناها تبريراً لتفاهته وابتذاله. قديماً قالت العرب"أعذب الشعر أكذبه"، وربما تصح المقولة من الناحية الجمالية أو الفنية أو لجهة اجتراح الاستعارات والتشابيه وسواها من بيان وبديع، لكن لناحية"المحتوى"يظل"أعذب الشعر أصدقه"وأكثره تعبيراً عن الوجدان، ولئن بقيت الإبداعات الحقيقية خالدة على اختلاف مذاهبها ومدارسها فلأنها لامست حيزاً ما في الوعي أو في الوجدان الجمعي، أما الزبد فيذهب جفاءً. لا أحد قطعاً يملك إصدار الأحكام أو ادعاء الحقيقة، لكني كنت أصغي الى السائق وأراقب"مشهد"الحياة خارج التاكسي، وأسأل نفسي ألا يملك المبدعون مسؤولية تجاه هذي الجموع التي تختلط فيها السحنات والمشاعر والأحلام واللهاث الدائم لأجل لقمة عيشٍ حلال، وعلى مَن يقع"الحق"إذا كانت الفطرة تبحث عن شعر يشبه صوت"أم كلثوم"أو"فيروز"، فيما بعض ما يقدم اليها تحت المسمى نفسه أشبه بأغنيات"سعد الصُغير"! "حيّرت قلبي معاك"... يصدح صوت أم كلثوم، فيما نثر الحياة اليومية على ضفاف النيل أصدق وأعذب من"شعر"كثير...! نشر في العدد: 16785 ت.م: 19-03-2009 ص: 31 ط: الرياض