بين عام 1905 وعام 1912، كانت العلاقة بين فرويد وكارل غوستاف يونغ، علاقة مثالية. فبين مؤسس التحليل النفسي وزعيم مدرسة فيينا، من دون منازع، كان تيار الود مر في شكل رائع، منذ أعلن الشاب يونغ في حديثه مع فرويد ان شبان التحليل النفسي وعلم النفس في مدينة زيوريخ يقدرونه كل التقدير، وأنهم"امتشقوا اسلحة الدفاع عنك بكل قوة في مواجهة الذين كانوا أعلنوا رعبهم عند قراءة كتابك الأخير"كما قال يونغ للمعلم الكبير. وطبعاً كان يونغ واحداً من اولئك الشبان، بل - سيعرف فرويد بسرعة - كان محرضهم على الوقوف مناصرين لفرويد ضد انصار"الدقة القديمة"من الذين أثار الكتاب المذكور غضبهم. والكتاب هو"ثلاث دراسات حول نظرية الجنس"، اما ما اثار الغضب فهو ان فرويد تحدث في هذه الدراسات وباستفاضة، عن ليبيدو الأطفال، ذلك الموضوع الذي كان محرّماً حتى ذلك الحين. المهم ان إبلاغ يونغ فرويد بذلك الموقف كان بداية صداقة طويلة وعميقة بين العالمين. كان من شأنه ان يمتد طويلاً، لولا ان العلاقات قطعت فجأة عام 1912، ليكون يونغ أثر ذلك واحداً من أبرز خصوم فرويد بل أعدائه، وليس على الصعيد العلمي فقط، بل - وهذا ادهى - على الصعيد الشخصي ايضاً. وخصوصاً على الصعيد الشخصي لأن الحقيقة التاريخية تقول لنا ان الخصومة بدأت شخصية، وربما ظلت شخصية دائماً، إذ ان يونغ، من الناحية العلمية لم يقف في شكل جدي ضد نظريات فرويد، بل طورها وفي شكل كان يمكن فرويد نفسه ان يطورها به، لو انه تعمق، حقاً، كما فعل السويسري يونغ في ربط الدين والأساطير ومسائل اللغة وما الى ذلك، بالتحليل النفسي. والحال أننا إذا بحثنا عن نقطة مركزية نعيد إليها بداية القطيعة، سنجدها في عبارة جاءت في واحدة من آخر الرسائل التي تبادلها فرويد مع يونغ، ويقول هذا الأخير فيها انه"اكتشف لعبة فرويد الحقيقية: انها لعبة تقوم على رفع الأستاذ نفسه ومكانته على الدوام بحيث يظل يشغل موقع الأب الأعلى محولاً تلاميذه الى أبناء طيعين ما يخلق لديهم حالاً من العُصاب الحقيقي"."أما انا"يضيف يونغ"فإنني لست مصاباً بأي عُصاب على الإطلاق". ولقد كان رد فرويد يومها"... إن ما من واحد منا يتعين عليه ان يخجل إن اكتشف ان لديه نصيبه من العُصاب". هاتان العبارتان وضعتا، يومها، نهاية لصداقة طويلة. ولكن، ايضاً، لمراسلات بين الرجلين كانت تواصلت على مدى سبع سنوات، وكانت محصلتها كتاب ضخم، حين نشر، نشر على جزأين لا يقل عدد صفحات كل منهما عن اربعمئة صفحة. ونعرف اليوم ان هذه الرسائل المتبادلة تشكل جزءاً اساساً من تاريخ حركة التحليل النفسي، كما من السيرة الشخصية لكل واحد من الرجلين. وإذا كان مؤلفون ومؤرخون كثر وضعوا كتباً عدة تؤرخ للصداقة ثم للقطيعة بين سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ، فإن كتاب المراسلات هذا، يشكل في الحقيقة افضل نص يروي الحكاية كلها، بما فيها حكاية القطيعة... شرط ان يعرف القارئ كيف يقرأ بين السطور منذ البداية، ثم كيف يتنبه الى الكيفية التي تطور بها اسلوب التراسل بين الرجلين. فعلى سبيل المثال نلاحظ ان يونغ يبدأ رسائله الأولى بعبارة:"سيدي الأستاذ المبجّل جداً".... لكنه لا يلبث ان يتحول بسرعة الى"سيدي الأستاذ العزيز"بادئاً برفع الكلفة مع أستاذه، الذي كان بدأ يطلق عليه في الرسائل ألقاباً واعدة مثل"يا رجل المستقبل"أو"ايها الأمير الوارث"و"يا ولي العهد". والحقيقة ان فرويد كان يرى في يونغ في ذلك الحين، عالماً صاعداً وقادراً على ان يأخذ بيد التحليل النفسي الى آفاق شديدة الجدة، وهو ما فعله يونغ حقاً. غير ان الذي حدث بعد تلك البدايات شديدة الود، هو - وكما نلاحظ في الرسائل - ان ملاحظات الأستاذ على بحوث يونغ، بل حتى على رسائله، وربما ايضاً على حياته الشخصية، راحت تأخذ أكثر وأكثر طابع الوصاية، وشيئاً من الحذر. إذ هنا، بمقدار ما راح يونغ يتباسط مع الأستاذ ويتحدث إليه - بفخر زائد عن حده، وفي احيان كثيرة بنوع من التفاخر الذي بدا وكأنه يطاول فكر الأستاذ نفسه، في شكل يوحي انه ما كان في استطاعته حتى لو أراد ان يصل الى عمق ما توصل إليه التلميذ - كان فرويد يضمن رسائله تحذيرات وضروب رفض وتساؤل سلبي، كان من شأن يونغ ان يعتبرها ضرباً من وضع العصي في دواليب تقدمه. وفي اختصار، يمكن القول ان رسائل السنوات الأولى كانت، بقلم يونغ، خالصة في ولائها للأستاذ، وفي المقابل، بقلم فرويد، معلنة صداقة وارتياحاً إزاء التلميذ، راحت رسائل السنوات الأخيرة تبدو نديّة في احسن احوالها. وكان من الطبيعي لپ"أنا"فرويد التي كانت في ذلك الحين اخذت بالتضخم اكثر وأكثر، ألا ترتاح لمثل هذه الندّيّة. وهكذا كان لا بد مما ليس منه بد. كان لا بد من القطيعة، التي صارت ناجزة في العام 1913. كان هذا شأن الرجلين، ولكن ما الذي كان من شأن الرسائل؟ بكل بساطة اختفت في ذلك الحين تماماً. فيونغ من ناحيته وضع مجموع رسائل فرويد إليه في مخبأ في جدار مكتبه من دون ان يخبر احداً بذلك. اما فرويد فإنه وضع رسائل يونغ في دولاب و... نسيها تماماً. ولاحقاً حين سيجبر فرويد على مبارحة فيينا الغارقة في النازية أكثر وأكثر، ستكون تلميذته ماري بونابرت من ينقذ الرسائل و... تحتفظ بها آملة في نشرها ذات يوم. غير انها كانت تعرف انها لا يمكنها نشر تلك الرسائل من دون أمرين: أولاً رسائل فرويد الى يونغ، وثانياً تصريح قانوني من يونغ بنشر الرسائل، غير ان هذا، حتى وإن كان أخبر ولديه أرنست وفرانز، بأمر الرسائل، فإنه كان يصر على عدم السماح بنشرها قبل حلول العام 2010، لكن وصيته هذه لم تنفذ تماماً، إذ انه مات في العام 1961، وقرر ولداه، في محادثات ومداولات مطولة مع الأطراف الأخرى المعنية، السماح بنشر الرسائل، ولكن ليس قبل مرور عقد على موت كارل غوستاف. وهكذا كان، لتنشر مجموعتا الرسائل خلال النصف الأول من سبعينات القرن العشرين في الألمانية اولاً، ثم مترجمة الى لغات عدة لاحقاً. ولقد كان نشر المجلدين مناسبة لإعادة الحديث عن جزء أساس من تاريخ التحليل النفسي، ولكن ايضاً للحديث عن جزء من مصير كل من فرويد ويونغ. إذ ان نصوص الرسائل لم تكن لتتوقع ان يسير العالمان، لاحقاً كل في طريق، من الناحية السياسية، ومن ناحية ربط السياسة بالتحليل النفسي: ففي الوقت الذي سلك فرويد طريق المنفى هرباً من النازيين الذين أحرقوا كتبه وأوراقه، ولم يتوقف هو عن مهاجمتهم، وصلت الأمور بكارل غوستاف يونغ الى حد انه جعل من نفسه، على الأقل، مهادناً للنازية، إن لم نقل، رفيق طريق لها. بل يقول الباحث الفرنسي روجيه دارون الذي اشتغل طويلاً على حياة الرجلين وأعمالهما مستنداً الى هذه المراسلات نفسها، يقول ان يونغ آمن بنوع من الصوفية المستندة الى بعد هتلري لا لبس فيه، هو الذي كان يردد في رسائله الى فرويد انه يكره"الشعب المبتذل كراهية عميقة"تضاف، علمياً الى ضروب كراهية اخرى عبّر عنها في رسائل كثيرة، ولا سيما من رسائل السنوات الأخيرة، تطاول المثليين جنسياً، والنساء والغرائبيات الشعبية، مقابل احترام مفرط للتراتبية الأكاديمية. وهي تعابير كان فرويد يكتفي رداً عليها، في رسائله الجوابية، إما بالصمت تماماً حيالها، وإما بالتعبير عن مواقف عقلانية لربما كانت هي ما أغاظ يونغ كثيراً. في الحقيقة كانت القطيعة بين فرويد ويونغ، قبل اكتشاف تلك المراسلات ونشرها، تتخذ لدى الباحثين سمات شديدة العلمية، ما يدفعهم الى الفرق المقارن بين كتابات هذا وذاك من أساطين التحليل النفسي، ولكن منذ ظهور الرسائل في الساحة العامة، راح نوع من النظر الشخصي يطغى على التحليل، في معنى ان القطيعة سرعان ما راحت تعتبر فعلاً شخصياً جرى بين أنانيتين أو في شكل أكثر تحديداً: بين أنانية أبدية لم ترض بتقلبات الابن وپ"عقوقه"الناتج من تلك التقلبات، وأنانية ابن لم يعد يرضيه ان يظل أبوه يعامله معاملة الطفل حتى بعد البلوغ.