في حسبة بسيطة يتبين لمن يريد أن يعرف، أن اسم شكسبير في موقع غوغل تحمله أكثر من 5 ملايين ونصف مليون مادة متوافرة على الشبكة العنكبوتية. ومعنى هذا أن شكسبير هو بين المداخل العشرة الرئيسة في التاريخ والكون، التي يهتم بها غوغل. ومعناه بالتالي، وأيضاً، أن ليس ثمة، من ناحية منطقية، أي جانب من جوانب حياة شكسبير أو عمله أو ما كتب عنه أو ما كتبه هو الخ... يفترض أن يكون غائباً. إذ اية خفايا ومعلومات إضافية يمكن أن توجد بعد، كي تتجاوز الرقم المذهل الذي ذكرناه أول هذا الكلام؟ ومع هذا كله، هناك دائماً في العالم، وفي الوقت نفسه، ألوف وربما أكثر من الألوف، من الباحثين الذين يحاولون أكثر وأكثر، سبر أغوار تلك الحياة وذلك العمل. وقلما يخلو يوم لا يوجد فيه في صحيفة أو أكثر، خبر أو أكثر عن اكتشافات تتعلق بشكسبير. ولعل من الأمور الدالة في هذا المجال، الخبر الذي نشر قبل يومين في صحف العالم، والمتعلق باكتشاف سمات شكسبير الحقيقية، للمرة الأولى في التاريخ، وذلك بعد العثور على ما يسميه الخبراء اليوم"اللوحة الوحيدة التي رسمت لصاحب"هاملت"و"عطيل"خلال حياته"، بمعنى أن هذه اللوحة هي التي يفترض أن تحمل لنا صورة شاعر الإنكليز وكاتبهم الأكبر الحقيقية، بعد أن ظلت لوحات كثيرة، ومنذ مئات السنين، تصوره لنا على الشكل المعهود: رجلاً حاد النظرات، أصلع الشعر، شرقي الملامح، أسمر اللون بعض الشيء. الصورة الجديدة، تأتي لتنسف تلك الصورة، طبعاً، فهو هنا، في اللوحة المكتشفة كثيف الشعر بعض الشيء أصهب اللحية، أبيض المحيّا مورّده، ما ينسف، لأسف العقيد القذافي وسعيد عقل، كل احتمال بأن يكون شكسبير ذا أصل عربي شمال أفريقي، بالنسبة الى الأول، أو لبناني بالنسبة الى الثاني. وطبعاً ليس هذا الأمر ما يهمنا هنا. همنا يتجه ناحية أخرى، وهو أن شكسبير يبقى لغز الألغاز في تاريخ الأدب في كل زمان ومكان، حيث كلما خيّل إلينا أننا كشفنا سراً يتعلق به، نجد السر سرعان ما ينهار أمام أدلة جديدة، وقرائن مناقضة للأولى. ومن هنا ذلك التقسيم لأعمال شكسبير بين مسرحيات من المؤكد أنها له، وأخرى يزيد احتمال نسبتها إليه عن 50 في المئة، وثالثة مشكوك في أمرها جدياً، ورابعة بالكاد يمكن أن تنسب إليه. وكما قلنا، في هذا السياق ثمة دائماً جديد يطلع به الباحثون. أما حديثنا هنا فهو عن واحدة من أقل مسرحيات شكسبير شهرة، والوحيدة التي يمكن أن نقول عنها انها لم تقدم قبل الآن في اقتباس تلفزيوني ولا في آخر سينمائي، ناهيك بأنها من أقل مسرحيات شكسبير تقديماً على الإطلاق. إذ إنها لم تظهر فعلاً على مسرح الأحداث الفنية التاريخية إلا اعتباراً من عام 1634، حين نشرت للمرة الأولى في أعمال شكسبير الكاملة. قبل ذلك ثمة إشارات إليها بالتأكيد. وكان ثمة دائماً من يتحدث عن أنها قدمت للجمهور فعلاً بين عامي 1613 - 1614. وثمة من البراهين ما يفيد بأنها قدمت في البلاط الملكي عام 1619 ... غير أن هذا كله ظل من دون تأكيدات. بل، يقول البعض، إن ثمة هنا ? على الأرجح ? خلطاً بين هذه المسرحية وأخرى تشابهها الى حد ما في الاسم. إذاً المسرحية التي نتحدث عنها هنا هي"الرجلان النبيلان من كنزمان"، أما الخلط فهو مع مسرحية شكسبير الشهيرة"السيدان النبيلان من فيرونا". وفي الحقيقة أن الهوة واسعة جداً بين العملين، إضافة الى أن مسرحية"فيرونا"، كانت واحدة من أول أعمال شكسبير، فيما يفترض أن الثانية كانت واحدة من آخر أعماله. وكل هذا، على أية حال، يبقى تخمينياً. المؤكد في هذا كله أن ثمة مسرحية"شكسبيرية"اسمها"الرجلان النبيلان من كنزمان"، موجودة منذ عام 1634 في مجمل أعمال شكسبير. وتدور أحداثها في بلاد الإغريق القديمة في أثينا وحواليها. ويرى كثر من الباحثين انه إذا كانت لشكسبير علاقة حقيقية بها، فإنه بلا ريب كتبها شراكة مع جون فليتشر الذي كان اعتاد التعاون معه على كتابة أعمال مشتركة خلال الحقبة الأخيرة من حياته. بل إن ثمة الآن ما يشبه اليقين من أن ثمة فصولاً بعينها كتبها شكسبير فعلاً، في مقابل فصول أخرى كتبها فليتشر. أما العمل كله، فمن الواضح أنه مقتبس من"حكاية فارس"وهي إحدى الحكايات الواردة في"حكايات كانتربري"لجوفري تشوسر. فعمّ تتحدث هذه الحكاية، والمسرحية بالتالي؟ عن حكاية غرام تراجيدية - كوميدية، وبالتالي تعتبر من مسرحيات شكسبير الرومنطيقية التي يلعب الغرام الدور الأول فيها، متجاوراً مع ما يدور من حوله من غيرة وغدر وتنافس ومبارزات... وما إلى ذلك. منذ مفتتح المسرحية نجدنا مع الشابين بالامون وآرسيتي، وهما من أسرة كينزمان من طيبة. وهما الآن أسيران لدى الأثينيين، بعد أن حقق هؤلاء انتصاراً كبيراً على طيبة وقتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا آخذين بقية شباب المدينة المهزومة أسرى ورهائن. الشابان الآن في زنزانتهما... وهما إذ يطلاّن من نافذة الزنزانة، يشاهدان فتاة رائعة الحسن سرعان ما يعرفان أنها الأميرة إميليا، فيقعان معاً في حبها. وهما إذ يصرح كل منهما للآخر بهذا الحب، يقعان فريسة الخلاف والتنافس والغيرة، ويبدأ كل منهما إحلال العداوة تجاه الآخر، بدلاً من الصداقة القديمة التي كانت تجمع بينهما منذ الطفولة. وإذ يكون آرسيتي، هو الأول الذي يطلق سراحه، يحظّر عليه دخول مدينة أثينا مذّاك وصاعداً، ويطرد. غير أنه سرعان ما يعود متخفياً متنكراً لملاقاة إميليا، معلناً نفسه خطيباً لها. في تلك الأثناء، يكون بالامون الباقي في السجن، قد هرب بمساعدة ابنة السجان التي كانت وقعت في هواه، وساعدته إذ أعلن لها أنه هو، بدوره، مغرم بها، لكنه كان - بالطبع - يكذب، ذلك أن شغفه بإميليا لم يكن قد بارح فؤاده. وهكذا إذ يتمكن من الهرب، يسعى للقاء إميليا، لكنه - ويا لمفاجأته - يلتقي آرسيتي بدلاً منها. وإذ يتشاجر الصديقان وابنا العمومة السابقان، يقر قرارهما على أن يحسما مسألة مَنْ منهما سيفوز بإميليا وبفؤادها، من طريق مبارزة حتى الموت تدور بينهما في الساحة العامة. وإذ تعلم ابنة السجان بخيانة بالامون لها، تمرض ثم تجنّ، حتى اللحظة التي يعود فيها إليها الشاب الذي كانت مرتبطة به قبل"ارتباطها"ببالامون، زاعماً وهي غير واعية بأي شيء، انه هو حبيبها الجديد بالامون. وإذ يعيّن موعد المبارزة بين هذا الأخير وآرسيتي، يتضرع كل منهما الى الآلهة، سائلاً إياها أن تنصره في المعركة: فمن ناحيته يطلب بالامون من الآلهة أن تمكنه من الزواج بإميليا. أما هذه فإنها تتضرع الى الآلهة أن تجعلها لا تتزوج إلا من ذاك الذي يحبها أكثر مما يحبها الآخر، من دون أن تعرف أي واحد منهما هو المطلوب. وأما آرسيتي، فأن يسأل الآلهة أن تجعله يربح المبارزة مهما كلفه الأمر. وفي النهاية أمام مرأى جمع من الشهود تدور المبارزة، وتكون المفاجأة أن الآلهة حققت أمنيات الشبان الثلاثة: فبالفعل يربح آرسيتي المبارزة، لكنه ما إن ينتهي القتال حتى يقع عن ظهر حصانه ويموت. أما إميليا فإنها تجد نفسها بسرعة عروساً لبالامون، الذي كان هو بالفعل من يحب الصبية أكثر. من ناحية مبدئية، من المفترض أن يكون شكسبير، حين شارك جون فليتشر في كتابة هذه المسرحية، بين عام 1613 - 1614، في الخمسين من عمره، وكان مجده المسرحي الكبير قد صار وراءه، حيث نعرف أنه لم يبق له لنهاية عمره من أعمال كبرى، ليكتبها خلال 1614 - 1616، أي عام رحيله، سوى القليل. لكنه في المقابل، كان قد أضحى سيداً من سادة المجتمع، كما تشير ملابسه الأنيقة في اللوحة التي ننشرها الى جانب هذا الكلام، ما يتناقض طبعاً مع الصورة المعهودة عن الفنان الكاتب والممثل الذي كانه، وهي صورة تتحدث عن تواضع الحال، وعن مرارة كان شكسبير يحس بها، معتقداً أن الحياة لم تعطه كما أعطاها. [email protected]