رياح و امطار على عدة اجزاء من مناطق المملكة    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة"    المخزونات الغذائية والطبية تتناقص بشكل خطير في غزة    تراجع النفط وسط تأثير التوترات التجارية    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية    الهدد وصل منطقة جازان.. الأمانة العامة تعلن رسميًا عن الشوارع والأحياء التي تشملها خطة إزالة العشوائيات    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    ولي العهد يتبرع بمليار ريال دعماً لتمليك الإسكان    ولي العهد يعزز صناعة الخير    الفالح: 700 فرصة استثمارية في الشرقية بقيمة 330 ملياراً    توجّه دولي يضع نهاية لزمن الميليشيات.. عون:.. الجيش اللبناني وحده الضامن للحدود والقرار بيد الدولة    بوتين يعلن هدنة مؤقتة في ذكرى انتصار الاتحاد السوفيتي    الانتخابات العراقية بين تعقيدات الخريطة وضغوط المال والسلاح    النصر يتوج بكأس دوري أبطال آسيا الإلكترونية للنخبة 2025    المنتخب السعودي للخماسي الحديث يستعد لبطولة اتحاد غرب آسيا    نادي الثقبة لكرة قدم الصالات تحت 20 سنة إلى الدوري الممتاز    في الجولة 31 من يلو.. نيوم لحسم اللقب.. والحزم للاقتراب من الوصافة    كلاسيكو نار في نصف نهائي نخبة آسيا للأبطال.. الأهلي والهلال.. قمة سعودية لحجز مقعد في المباراة الختامية    رافينيا: تلقيت عرضا مغريا من الدوري السعودي    بالتعاون بين وزارة النقل و«كاوست».. إطلاق مشروع «أرض التجارب» لتطوير قطاع النقل بالمملكة    السعودية ومصر تعززان التعاون الصناعي    الضيف وضيفه    شدّد على تأهيل المنشآت وفق المعايير الدولية.. «الشورى» يطالب بتوحيد تصنيف الإعاقة    زواجات أملج .. أرواح تتلاقى    أمير المدينة يدشّن مرافق المتحف الدولي للسيرة النبوية    الأمير فيصل بن سلمان:"لجنة البحوث" تعزز توثيق التاريخ الوطني    وفاة «أمح».. أشهر مشجعي الأهلي المصري    حكاية أطفال الأنابيب (2)    مباحثات دولية حول تأثير التقنيات الحديثة لتمويل الإرهاب في اجتماع الرياض.. اليوم    استعراض منجزات وأعمال "شرف" أمام أمير تبوك    «الشورى» يقر توصيات لتطوير مراكز متخصصة للكشف المبكر لذوي الإعاقة والتأهيل    وزارة الداخلية تواصل تنفيذ مبادرة "طريق مكة" في (7) دول و(11) مطارًا    محمد بن عبدالرحمن يلتقي نائب "أمن المنشآت"    بيئة جدة تشارك في فعالية «امش 30»    مستشفى الملك خالد بالخرج يدشن عيادة جراحة السمنة    محافظ محايل يكرم العاملين والشركاء في مبادرة "أجاويد 3"    هيئة الربط الخليجي ومعهد أبحاث الطاقة الكهربائية ينظمان ورشة عن الذكاء الاصطناعي التوليدي    6.47 مليارات ريال إيرادات المنشآت السياحية في 90 يوما    فرقنا نحو المجد الآسيوي: إنجازات غير مسبوقة.. ونهائي نحلم به    يايسله: الهلال لا يقلقني    46 قتيلا في انفجار ميناء إيران    شذرات من الفلكلور العالمي يعرف بالفن    GPT-5 وGPT-6 يتفوقان على الذكاء البشري    انطلاق ملتقى "عين على المستقبل" في نسخته الثانية    مكتبة الملك عبدالعزيز تعقد ندوة "مؤلف وقارئ بين ثنايا الكتب"    أمير المدينة المنورة يدشّن المرافق الحديثة للمتحف الدولي للسيرة النبوية    تدشين 9 مسارات جديدة ضمن شبكة "حافلات المدينة"    جمعية الخدمات الصحية في بريدة تفوز بجائزة ضمان    القبض على مواطن بتبوك لترويجه مادة الحشيش المخدر    محافظ تيماء يرأس الجلسه الأولى من الدورة السادسة للمجلس المحلي    بلدية مركز شري تُفعّل مبادرة "امش 30" لتعزيز ثقافة المشي    جامعة الأمير سلطان تطلق أول برنامج بكالوريوس في "اللغة والإعلام" لتهيئة قادة المستقبل في الإعلام الرقمي    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة ال 46 من جامعة الملك فيصل    بتوجيه من ولي العهد.. إطلاق اسم "مطلب النفيسة" على أحد شوارع الرياض    السعودية تمتلك تجارب رائدة في تعزيز ممارسات الصيد    كيف تحل مشاكلك الزوجيه ؟    مدير الجوازات يستعرض خطة أعمال موسم الحج    ملتقى «توطين وظيفة مرشد حافلة» لخدمة ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة - الذي لا يبيع ولا يشتري
نشر في الحياة يوم 10 - 03 - 2009

مشواره اليومي لا يتعدى الخمسين متراً من بوابة منزله وحتى باب دكانه، يسير بتؤدة أجبرته عليها السن، لا يستعين على سيره بعصا، بل بنظارة عتيقة قطرها كبير ويبدو زجاجها لامعاً كالمرآة، يتحسس بقدمه الهرمة حجارة الطريق والنتوءات وهو يسير بمحاذاة واجهات البيوت وذراعه أقرب ما تكون إلى الجدران. يتساند عليها إذا تعثّر. شعره الأبيض غزير وذقنه حليقة تماماً، ودائماً تظهر عليها جروح من ماكينة الحلاقة. عند الشارع العريض ينتبه تماماً ويعبره بحذر وإذا ما اقترب منه أحد ليساعده أو يحذره نهره بعنف وغلظة. محله يطل على الشارع العريض من الجهة الأخرى. عندما يصل إليه تلمع عيناه ولون وجهه الشمعي يتورد. يقول: صباح الخير، بصوت عالٍ، فيهرع صبي الطعمجي مهرولاً نحوه، وينتظر حتى يخرج مفتاحه الكبير من جيب الجاكيت الصوفي المتلبد. يفتح الصبي الباب الصاج ويبدأ في رفعه بيديه والباب يعصلج ويصدر أصواتاً غريبة حتى يمتثل أخيراً وينزلق إلى أعلى. ملّ الصبي من أن يخبره يومياً بحاجة الباب إلى التزييت، وملّ أيضاً من أن يعرض المساعدة في تزييته. عاد الصبي من الداخل بالكرسي الخشبي ليضعه أمام المحل. واكتفى بتنظيف ملابسه من الغبار. ثم أعاد إليه المفتاح الضخم.
الشارع تغيرت ملامحه أكثر من مرة خلال الستين عاماً الماضية، منذ أتى به أبوه إلى هذا المحل وهو في سن الخامسة عشرة. هذا الشارع الرتيب لم يملّ أبداً عم حسن رؤيته. كان كل يوم فيه شيء جديد يدهشه. محلات تغلق ويتغير نشاطها ويتغير ملاكها. بيوت تهدم وتصبح خرائب، ثم تنمو مرة أخرى كالوحش الإسمنتي بسكان آخرين ومحلات متعددة وبضائع لم يكن يتصور أنها ستؤجر أو من الممكن بيعها.
كان جالساً على مقعده الخشبي، أعلى من رأسه بقليل الباب الصاج الذي لا ينفتح عن آخره، والقفل الحديدي الكبير معلق فيه. المحل مدخله يظهر كمغارة من القرون الغابرة. وعمقه معتم تماماً. أما الجزء الأمامي منه فبالكاد تصل الشمس إلى أرففه الخشبية التي يكسوها التراب وشكلت عليها خيوط العنكبوت خرائط عجائبية. فوق الصندوق الخشبي الأمامي المواجه للشارع والذي كان يقف خلفه عم حسن في الماضي يوجد جهاز هاتف عتيق وعبوة حليب فارغة وبضعة أرغفة سوداء تماماً تقلبت عليها كل صنوف البكتيريا حتى أصبحت كالمومياء لو لامستها تتفتت بين أصابعك. هناك أيضاً ميزان قباني عتيق زجاجه مكسور ومؤشره غير موجود لكن كف??????ّته سليمة.
في الحادية عشرة يخرج الأولاد الصغار من مدارسهم القريبة من المحل. يتدافعون بصخب ويتعاركون ويضحكون بحيوية ويجرون أسرع من البرق. بضعة مشاغبين منهم يتحركون في صفوف متباعدة، كل صف لا يقل عن ثلاثة تلاميذ. يسيرون بمحاذاة المحل على بعد قريب من عم حسن. يسلّمون عليه بوقار واحداً تلو الآخر متجهين إلى الأمام. وعندما يرد عم حسن عليهم السلام يسبّونه بأقذر الألفاظ وهم يتضاحكون. ينهض عم حسن مغتاظاً ويتناول عصا يضعها بجوار باب المحل. يتحرك نحوهم بضع خطوات فيجرون مبتعدين. يجلس عم حسن مستنداً الى عصاه. وبعد مضي وقت قليل يأتي الصف الثاني ليعيد السيناريو بالتفصيل. لكن في هذه اللحظة يستند عم حسن الى عصاه ويده ترتعش من الغضب. ويظل يقظاً منتبهاً لهؤلاء الأولاد. في تلك اللحظة يكون أولاد الصف الثالث واقفين بعيداً من المحل يراقبون ما يحدث وهم يكتمون ضحكاتهم. هناك أولاد صغار عاديون يمرون مصادفة بجوار المحل وهؤلاء المساكين هم الذين تباغتهم عصا عم حسن بالتتابع مع شتائمه ولعناته. فيجرون وهم يبكون ويصرخون متهمينه بالجنون، وأحياناً يعود بعضهم بأولياء أمورهم الذين يعاتبون عم حسن بقسوة. وبعد أن يلوم المارون عم حسن على فعلته ويسخرون من خرفه يتحرك الطابور الثالث من الأولاد المشاغبين، يسلّمون عليه بوقار ويسألونه عن سبب شجاره مع الأولاد الآخرين ويطيّبون خاطره ويقبّلون رأسه وهم يقولون: معلش يا جدو.
لكنهم بمجرد ابتعادهم خطوات عدة يكررون الأفعال نفسها بسخرية أكثر وبصخب أكبر. يظل عم حسن ينتفض على كرسيه وغضبه يشتد. يهوِّشهم بالعصا ولكنهم لا يأبهون ويقتربون أكثر، وحين يهمّ بالنهوض يجرون. أحياناً يستكين عم حسن تماماً ولا يهتم بمشاغبتهم مما يستفزهم تماماً فيقتربون جداً وبحذر شديد. وقد تدفع الجرأة واحداً منهم ليمد يده تجاه"لاسة"عم حسن محاولاً جذبها. وعم حسن مترقب كمن ينوي أن يقتل ذبابة. وفي الغالب لا الولد المتسرع ينجح في جذب اللاسة، ولا عم حسن ينجح في الإمساك به أو تلحقه العصا. لا يتوقف هذا العبث حتى يستفز أحد المارة فينهرهم وقد يطردهم بعنف.
يستريح عم حسن قليلاً ثم يجذب"المنشة"ويظل ينش بها الذباب عن وجهه برتابة حتى يحين خروج البنات من المدرسة الإعدادية. البنات الطيبات بحكم العادة يتجنبن المرور أمام محله ويغامرن بحياتهن وهن ينزلن إلى نهر الشارع الذي تفصله عنهن السيارات المتوقفة أمام محله. الشارع رئيسي ومتوحش تندفع فيه الباصات اندفاعاً جنونياً. وهن يتحركن بحذر إلى جوار هذه السيارات المتوقفة وتحتك ملابسهن بتراب يعلو دائماً هذه السيارات، وعندما ينجحن في الإفلات من هذه المنطقة المحذورة ينهمكن فترة في تنظيف زيهن المدرسي.
البنات المعتدات بأنفسهن لا يأبهن لعم حسن ويمرنّ من أمام محله لا يلتفتن إليه وكأنه لا يكلمهن أو يخاطبهن. البنات المشاغبات وما أكثرهن يضحكن وهن ينظرن إليه عند اقترابهن منه. ثم يتوقفن وهو يناديهن بصوته المرتجف: اتفضلوا يا بنات.
أكثرهن جرأة هي التي تقترب منه، أو تنصاع لإشارة يده فتخفض رأسها وتقرب أذنها عند مستوى فمه ليهمس لها: عندي حلوى طيبة. لكن البنت تبتسم وترد عليه في دلال: إديني واحدة يا عم حسن.
يبلع عم حسن الطعم فيقف بحماسة يحاول أن يقبض على ذراع الفتاة أو يستند إليها فتبتعد قليلاً بدلال. يشير إليها بالدخول إلى المحل قبله. فتحرك رأسها بالرفض وابتسامتها تتسع. يضطر أن يدخل أولاً. بمجرد أن تواجه البنت ظهره حتى تضربه ضربة خفيفة عليه وتقول عابثة: إخص عليك يا جدو هو انتَ منهم.
ثم تضحك زميلاتها بقوة ويرددن أغنية معتادة تسخر منه وهن يعزفن إيقاعها على سطح إحدى السيارات:"جدو حسن يا مجنون. سيب البنت يا مجنون". يعود عم حسن بخزيه إلى كرسيه ناقلاً نبرات صوته إلى طبقة السكينة والضعف، مُشْهِداً المارة على قلة أدب بنات هذه الأيام، فيضحكون ثم يصرفون البنات.
الموظفات القديمات في المصرف القريب ومصلحة الضرائب يعرفنه جيداً، ولا يرينه إلا كما يرين المتسولين الذين يفترشون الأرصفة. لا يلتفتن إليه ولا يؤثر فيهن صوته المتهدّج. الموظفات الحديثات التعيين هن فقط اللواتي قد يقعن في شراكه. وقد يستمعن إليه، ويراقبن بحيرة إشاراته إلى داخل المحل الخالي من أي بضاعة وهو يخبرهن بأن لديه نوعاً ممتازاً من الجبن الدمياطي أو السمن والبيض البلدي. ويرتجفن ويده تربّت على ظهورهن وكفه تتحسسهن، ثم يفهمن اللعبة فيتجنبنه.
عم حسن الذي يفتح محلاً لا يبيع فيه شيئاً ولا يشتري. ويغلقه في أيام الجمع والعطلات الرسمية وعند الضرورة القصوى. عم حسن الذي لم يستطع أولاده ولا أحفاده وضع حد لتصرفاته المخزية. مات أمس ومر جثمانه في الشارع العريض أمام محله، من دون أن تعرف البنات ولا الصبية، ولم يكلف أحد من أولاده نفسه تعليق ورقة بنعيه على باب المحل.
نشر في العدد: 16776 ت.م: 10-03-2009 ص: 30 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.