في محله الصغير أمام مدرسة المشرقي المشتركة بشارع البقلي، خلف قسم الخليفة، كان عم سعيد يجلس على كرسيه الجلد البُنّي المواجه لمكتبه الكبير الذي توجد به دفاتر كثيرة متربة، وتليفون أسود قديم جداً، والذي تسلمه في بداية ثمانينات القرن الماضي ولم يغيره أبداً، وخلفه ستاند صغير فوقه مروحة قديمة من طراز مراوح شركات القطاع العام. محله الذي يفتحه في تمام الثامنة بالضبط، لم يتأخر أبداً عن فتح المحل في ذلك الموعد، محله الزجاجي الوحيد الذي كانت كل جوانبه من الزجاج، بحيث يستطيع أن يرى الناصيتين اللتين يطل عليهما المحل ولكنه على غير العادة لم يترك مكتبه مطلقاً، لم يطلب الشيشة القص من المقهى المجاور، ولم يطلب الشاي الكشري بالنعناع، بل لم يتحرك من على الكرسي طوال الوقت، ولم يلق بنكاته المكشوفة مع صاحب السوبرماركت على ناصية الخليفة، أو مع الصيدلي في صيدلية المشرقي، وعندما دخلت صاحبة الفرن عليه لتحاول أن تعطيه الخبز الذي تدخله إليه في تمام العاشرة صباحاً حيث يكون هو قد طلب الفول والطعمية والباذنجان المخلل، كلمته: - يا عم سعيد... يا عم سعيد. وعندما لم يرد عليها هتفت بأعلى صوتها: عم سعيد الحانوتي مات... عم سعيد الحانوتي مات! تجمع الناس في شارع الخليفة حول صوت الصراخ وولولة صاحبة الفرن. ولما كشف عليه الصيدلي وجس النبض أكد كلام صاحبة الفرن، قال أحدهم: لازم نبلغ القسم، قال آخر: إيه الصباح ده على الصبح؟! وقال ثالث: ده إحنا مانعرفلوش قريب ولا جار ولا ولاد، وقال رابع: ده طول عمره عايش كده لوحده أصله الله يرحمه كان بخيل. فقالت السيدة صاحبة الفرن: - اذكروا محاسن موتاكم. وغطوه بقطعة قماش جلبها أحد صبيانها العاملين في الفرن، وتعامل الجميع بحزن شديد مع الموقف، وقرأوا الفاتحة على روحه، حتى أتى صوت صاحب القهوة: - كده عايزين حانوتي يدفنه. فضجوا بالضحك حد البكاء وانفلت الموقف الحزين ولم يستطع أي منهم أن يتعامل مع الأمر بجدية مرة أخرى، وفكروا من سيقوم بدفن الميت الذي دفن كل أموات الحي، بينما كانت سيارته السوزوكي قابعة هناك لا يعرف أي منهم مكان مفاتيحها.