"إن الوقت حان، كي تغيّر الحكومة رأيها في الموضوع برمته. إن الجرائم التي حدت بالحكومة التركيَّة الى تجريد ناظم حكمت من جنسيته التركيَّة لم تعد قائمة، بل إنَّها لا تعتبر جرائم الآن بالمرَّة". بهذه العبارات، علَّق جميل تشيتشك، نائب رئيس الحكومة التركيَّة على قرار الحكومة، إعادة الجنسيَّة التركيَّة الى شاعر تركيا ناظم حكمت. وحتَّى أثناء إعلان تركيا"ندمها"على فعلتها تلك، ثمَّة استبطان وإيحاء بأن ما قام به ناظم حكمت وقتئذ، واستوجب تجريده من الجنسيَّة، كان جرماً. ذلك الجرم الكبير، وقتئذ، دفع تركيا إلى تجريده من الجنسيَّة، في أيَّامنا هذه، لم يعُد جرماً، بحسب المسؤول التركي! لكنّ كتَّاباً أكراداً وأتراكاً وأرمن في تركيا، اغتيلوا، كالكاتب الأرمني هيراند دنيك في شتاء 2006، وقبله الكاتب والصحافي الكردي موسى عنتر سنة 1992، ويخوَّنون كأورهان باموك، وتصدر في حقِّهم أحكام بالسجن أيضاً وأيضاً. كما أن طالباً تركيَّاً، تعرّض للاعتقال سنة 2005، بتهمة"ممارسة نشاط يقوّض أركان الدولة"، لأنه قرأ إحدى قصائد ناظم حكمت في مدرسته! أيَّاً يكن، ولأن ما اقترفه حكمت، صار في خبر كان التركي، ولم يعد جرماً، فإن ما فعلته تركيا بحقِّه كان وما زال جرماً، ينبغي أن تعتذر عنه. ناظم حكمت، الذي ولد في مدينة سالونيك سنة 1902، من عائلة ثريَّة، ذات نفوذ. فوالده كان حاكماً لحلب، وديبلوماسيَّاً، وأمُّه، ابنة أنور باشا أحد أقطاب جمعيَّة الاتحاد والترقي التركيَّة، وكانت رسَّامة وعازفة بيانو. لم يمنعه منبته الاجتماعي والطبقي الارستقراطي من التضامن مع معاناة الفقراء والعمال والمسحوقين وآلامهم وقضاياهم، فانتسب الى الحزب الشيوعي التركي. وكانت مساندته للتحوَّل الجمهوري لتركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك، في سياق مساندة الحزب الشيوعي لهذا التحوّل، ونزوع حكمت التحرري. إذ كان أتاتورك يراسل لينين، ويوهم البلاشفة أنه اشتراكي. وبعد أن تكشَّفت بطانة أتاتورك، الذي أودى بقيادة الحزب الشيوعي التركي، عبر إغراق سفينة، كانوا على متنها، ومن بينهم زعيم الحزب، مصطفى صبحي، وقتئذ، بدأت معارضة ناظم حكمت وبقايا الحزب الشيوعي للأتاتوركيَّة. وفرَّ حكمت إلى روسيا سنة 1921، وبقي هناك لغاية 1928. ولحظة عودته إلى تركيا، صيف 1928، اعتُقل، لثلاثة أسابيع. وبدأت رحلته مع جدران السجون والمعتقلات، لفترات طويلة وكثيرة، تمَّ فيها إطلاق سراحه، ثمّ سجنه، لغاية سنة 1950، حيث تجوَّل بين سجون أنقرة، اسطنبول وبورصا، ثمّ أعيد الى سجن اسطنبول. كتب ناظم حكمت في مجلّة"آيدنليك"المتنوِّر اليساريَّة، باسم مستعار، هو أورهان سليم. ثم ترأسّ تحريرها. وسنة 1938، حُكمَ عليه بالسجن ل28 سنة، على خلفية قصيدة كتبها، اتخذتها المحاكم التركيَّة ذريعة لاتهامه بالتحريض على العصيان ضدّ الجمهوريَّة، ناهيكم عن شيوعيَّة حكمت التي كانت دليل إدانة ضدّه. قضى من حكمه ما يناهز 12 سنة و7 أشهر، وتمَّ الإفراج عنه بعفو سنة 1951. وبعدما فرَّ إلى الاتحاد السوفياتي السابق، رافضاً الالتحاق بالجيش، تمَّ تجريده من الجنسيَّة في العام نفسه. بقي حكمت في منفاه الاختياري، حتى توفيّ في موسكو يوم 3/6/1963، ودُفن هناك، هو الذي كان قد أوصى بأن يُدفن في ظلّ شجرة في مقبرة وسط الأناضول. كانت نشأة ناظم حكمت، مصاحبة لأهم المراحل الانتقاليَّة التي مرَّت بها تركيا، حيث أحكمت جماعة"الاتحاد والترقي"قبضتها على السلطنة سنة 1909، ودخل"الرجل المريض"الحرب العالميَّة الأولى، وخرج منها مهزوماً. من ثمّ بدأت حرب تحرير تركيا من اليونان والبلغار، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، ثم إعلان الأخير الطلاق التامّ مع دولة الخلاقة سنة 1923، وتأسيس الجمهوريَّة التركيَّة. هذه المرحلة من الحروب والاضطرابات، صاغت المداميك الأولى للوعي الشعري لدى ناظم حكمت. ولم تقف تلك المرحلة الملتهبة التي عايشها حكمت في صباه، حائلاً أمام ميله إلى أناشيد او قصائد التصوّف المولوي نسبة الى جلال الدين الرومي، في أثناء تردده على التكايا وحلقات الذكر التي كان يعقدها الدراويش. لكن، سرعان ما اتّجه حكمت صوب الماركسية، وبقي هكذا حتى لحظة وفاته. تتسم لغة ناظم حكمت الشعريَّة بالسلاسة والبساطة، وعدم التكلّف، والحنين والتمرُّد والعمق الإنساني، تقارب في صياغاتها لغة أهل الشارع والبسطاء والعوام، كقوله:"يا وطني... يا وطني/ اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك/ تقطّع حذائي الذي حمل تراب شوارعك/ آخر قميص اشتريته في تركيا، صار مقطّع الأوصال منذ زمن/ يا وطني لم يبق لدي منك سوى الشيب في شعري/ ما عندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي". وكانت فترات السجن والاعتقال، هي الفرصة لتعرُّفه على حياة المقموعين والفقراء والمضطهدين والمهمَّشين والمجرمين... الخ، عن قُرب، ويتواصل معهم، وتنغمس قصائده في عكس حياتهم وترجمتها. قصائده في السجن، كانت تنبض بالمقاومة والعمل لأجل غد مشرق. فكتب لزوجته، واصفاً الظالمين والقامعين:"إنهم أعداء الأمل يا حبيبتي/ نعم أعداء المياه الجارية والأشجار المثمرة اليانعة والحياة المتدفقة المتطورة/ ذلك أن الموت طبع بصماته على جباههم/ هم مثل الأسنان المنخورة/ مثل اللحم المتهرئ/ إنهم محكومون بالانهيار الى غير رجعة/ عندئذ يا حبيبتي/ سترين بكل تأكيد ملائكة الحرية تحوم في أجواء بلادنا/ مرتدية أحلى أزيائها/ متلفعة ثياب العمال". وإلى جانب النزوع والدفق الإنساني في لغة ناظم حكمت، ثمّة انزلاق نحو الشعار ولغة الوعظ والإرشاد والخطاب والمنبريَّة، ما أبعد بعض نصوصه عن الشاعريَّة، وجعلها مثقلة باليساريَّة التوجيهيَّة، كقوله:"البورجوازية قتلت اثنين منا/ أماتت اثنين لن يموتا منا/ البورجوازية دعتنا للمعركة/ وقد قبلنا الدعوة/ فنحن كما نعرف ان نضحك بفم واحد/ نعرف ان نحيا ونموت كواحد/ كلنا من اجل واحدنا/ واحدنا من أجل كلنا". أيَّاً يكن، فناظم حكمت، الذي ترجمت أعماله إلى خمسين لغة، أثَّر شعره في جيل كامل من شعراء تركيا، وأحدث نقلة نوعيَّة في الشعر التركي، بأن أبعده من النظام العروضي والقافية إلى الانفتاح والتحرر من الوزن. فاستحقَّ ان يكون رائد الحداثة الشعريَّة في تركيا. ومما لا شكَّ فيه، ان انفتاحه على الشعر الغربي، والروسي على وجه الخصوص، أكسبه خزيناً ومراساً في مسعى تجديده للشعر التركي. فكان سفير الشعر والأدب التركي إلى العالم، وصار نتاجه جزءاً من الإرث العالمي للشعر. وعلى رغم تماهيه مع مسألة الالتزام وتجيير الشعر لخدمة قضايا سياسيَّة واجتماعيَّة، وفق منظور الواقعيَّة الاشتراكيَّة، إلاّ أن شعر حكمت، استطاع كسر تقاليد او مفاهيم هذه الواقعيَّة، لاحتضان الفضاء الإنساني الأرحب، عبر التغنِّي بمعاناة الإنسان، أينما كان، وأيَّاً كان. وعلى رغم ويلات الحروب التي شهدها، وجولات السجن والاعتقال، والمنفى الذي عاشه، بقي شعره ناضحاً بالأمل والثقة بالغد:"أجمل البحار، هي التي لم نرها بعد/ أجمل الأيَّام، هي التي لم نعشها بعد/ أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد...". جرت محاولات لإعادة الجنسيَّة الى حكمت، أولاها، سنة 1988، حيث تقدَّمت أخته بطلب لم يلقَ أيّ استجابة. تلته محاولة أخرى لأخته، سنة 1993، قوبِلت بالرفض من المحكمة الإدارية. وأحبط حزب الحركة القوميَّة، مسعى لوزيرة الثقافة سنة 2001، استميهان تالاي، لكون الحزب القومي المتطرّف المذكور، كان شريكاً في الحكومة الائتلافيَّة آنئذ. وسنة 2006، أحبطت محاولة أخرى لأحد نوّاب حزب الشعب الجمهوري"الأتاتوركي"في هذا المسعى. كانت لناظم حكمت علاقات بالكثير من شعراء أوروبا وأدبائها، والعالم العربي أيضاً. وأولى الترجمات العربيَّة لنصوصه كانت منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وبخاصَّة قصيدته"منصور"، الذي يعلن فيها تضامنه مع مصر، إبان العدوان الثلاثي عليها. ناظم حكمت، الذي كان يصف نفسه بالشاعر المناضل الملتزم والأممي، وعلى رغم كل العمق الإنساني في شعره، يؤخذ عليه أنه لم ينتقد فظائع ستالين ودمويَّته ومعسكرات اعتقاله. وإذا كان وقتها حكمت سجيناً في تركيا، لكن، بعد فراره إلى الاتحاد السوفياتي السابق، وبعد وفاة ستالين، بالتأكيد، كان على اطلاع ودراية بما كان جرى في روسيا الشيوعيَّة حينئذ. فلماذا التزم حكمت الصمت وقتئذ؟ لا خلاف في أن ناظم حكمت، قد انتصر على الأتاتوركيَّة، حيَّاً وميتاً، ولا خلاف في أن تركيا لم تنجح في تجريده من تركيَّته، حين جرَّدته من جنسيَّته، ولا خلاف في أن إعادة الجنسيَّة اليه، هي أقلّ ما يمكن أن تقوم به تركيا، تجاه عميد شعرها المعاصر. لكن، هذا الموقف ليس بكافٍ. فثمَّة الكثير من المبدعين الأتراك، الذين ينبغي ان تعيد اليهم تركيا الاعتبار. أولئك الذين أثروا الثقافة والفنّ التركي بإبداعاتهم، كالسينمائي والروائي الكردي الحائز جائزة اورهان كمال أرقى جائزة أدبيَّة تركيَّة مطلع السبعينات، والسعفة الذهبية في مهرجان كان سنة 1981، المخرج يلماز غونيه، الذي توفيّ في باريس يوم 9/9/1984، والفنان والمغنّي الكردي المعروف، احمد قايا، الذي توفّي في باريس سنة 2000. نشر في العدد: 16776 ت.م: 10-03-2009 ص: 30 ط: الرياض