قام الروائي التركي أورهان باموك، في مطلع السنة الجارية، بإدارة تحرير جريدة "الراديكال" اليومية ليوم واحد، في إطار تقليد اتبعته هذه الجريدة، باستضافة مثقفين بارزين لإدارة تحريرها. وركز الروائي الحاصل على جائزة نوبل، في مانشيتات الصفحة الرئيسة، على أخبار تتعلق باضطهاد المثقفين في تركيا. وكان"المانشيت"الأول يتعلق بوثيقة تاريخية، نبشت من أرشيف جريدة"جمهوريت"العلمانية، تعود إلى العام 1951، تتضمن دعوة لپ"البصق في وجه ناظم حكمت". يدين الخبر الأول في الجريدة، تواطؤ الصحافة مع الدولة في اضطهاد مثقفي البلد البارزين، مع التذكير بأمثلة قريبة كالروائي يشار كمال والمغني أحمد كايا، قبل العودة إلى تلك الفترة التاريخية حين أعلنت الدولة شاعر تركيا الكبير"من أكبر خونة الوطن"، واضطهدته سنوات طويلة في السجن، قبل أن يفر خارج البلاد، تجنباً منه للعودة إلى السجن مرة أخرى، ثم يموت في منفاه الموسكوفي في العام 1963. جريدة"جمهوريت"العلمانية، بل وپ"اليسارية"التي ستصبح لاحقاً من أبرز المدافعين عن حكمت، ومن دعاة استعادة رفاته إلى أرض الوطن، نشرت في العام 1951، صورة للشاعر، مع التعليق التالي:"أخيراً حصلنا على صورته، ونحن ننشرها ليبصق الناس في وجهه حتى الارتواء". نشر المثقف الماركسي البارز يالتشن كوتشوك، كتاباً يحمل عنوان"الشبكة"وخصص أحد فصوله لناظم حكمت، واستهجن النفاق السائد في البيئة الثقافية التركية حول ظاهرة ناظم حكمت، واقترح، لتجاوز ذلك إلى إعادة اعتبار حقيقية للشاعر الكبير، من طريق إعادة الجنسية المسحوبة منه بقرار حكومي، واستئناف محاكمته مجدداً وصولاً إلى تبرئته من التهم الملفقة التي أدين بموجبها، وأخيراً بتأسيس ميدان معرفي جديد يدعوه بپ"الناظمولوجيا". وقدم يالتشن مساهمة أولى في هذا"العلم"الجديد، تأويلاً يتصف بالجدّة لمسألتين يلفهما الغموض في حياة ناظم حكمت، تتعلق الأولى بعلاقاته النسائية، والثانية بعلاقته بالحزب الشيوعي التركي. يبدأ كوتشوك بتوكيد يزعزع الفكرة الشائعة عن علاقة الحب التي ربطت الشاعر بالسيدة"بيرايه"، التي دأب حكمت على ذكرها في قصائده ورسائله المكتوبة في السجن. أما الروسية"فيرا"، فكان حبه المزعوم لها، وفقاً للكاتب، هروباً للشاعر من العزلة، وكانت هذه، عنده، صنو الموت، واحتماءً بالحياة. يحيل كوتشوك، لتأكيد فكرته، إلى قصيدة"صفرة التبن"التي يتصدرها هذا الإهداء:"إلى فيرا تولياكوفا، مع احترامي العميق"، فيقول إن العاشق لا يخاطب محبوبته بالاسم الكامل، ولا يؤكد مشاعر الاحترام التي تخلق حاجزاً رسمياً. ويقتبس من القصيدة المذكورة هذه الجملة:"هل تستطيع رسم صورة السعادة يا عابدين؟"، ثم يعلق قائلاً:"ليس في هذه الجملة شعر ولا حكمة فلسفية". ذلك أن الإنسان لم يعرف مفهوم السعادة، أصلاً، إلا بواسطة الفن، ومنه الرسم. ولكن، ما الذي أرادته فيرا من ناظم؟ تقول هذه، في مذكراتها المنشورة، إنها استجابت له شفقةً منها على توسلاته. لكن ليالتشن كوتشوك رأي آخر، فحواه أن الاستخبارات السوفياتية كلّفتها بمراقبته، وهذا ما يقودنا، إلى علاقة ناظم بالحزب الشيوعي التركي، وبالدولة السوفياتية. يعيد كوتشوك بداية علاقة ناظم بالشيوعية إلى آخر العشرينات، أي في اللحظة التي انعطفت فيها سياسة الحزب الشيوعي السوفياتي، انعطافاً حاداً، نحو اليسار. لكن ذلك لم يعمر طويلاً، وسرعان ما انعطف الحزب ومعه الكومنترن مجدداً نحو اليمين. قادة الحزب الشيوعي التركي التقطوا التغيير فوراً واستجابوا له بتصفية الحزب والانضمام إلى حزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك، تنفيذاً لأوامر قيادة الكومنترن، في حين استمر ناظم في خطه اليساري، الأمر الذي دفع بتلك القيادة إلى اتهام ناظم بالتروتسكية، التي كانت وقتها صنواً للخيانة، في عرف القيادة الشيوعية العالمية. في ضوء هذه الحقائق، يعيد كوتشوك تأويل كثير من قصائد ناظم التي كتبها في المنفى، ويطغى عليها الشعور بعزلة شديدة، مع طغيان فكرة الموت. مثلاً هذا المقطع من قصيدة كتبها في لايبزغ ألمانياالشرقية، في 1959، قبل انتقاله إلى موسكو: كل الأبواب مغلقة دوني/كل الستائر مسدلة/لا زرقة سماء بمساحة منديل/ولا حفنة نجوم/هل سيداهمنا الموت هنا/ألن نخرج، يا وردتي، من هذه المدينة؟ يعلّق كوتشوك، على هذا المقطع قائلاً: إذا كانت لايبزغ سجناً فمن يكون السجان؟ ويخبرنا أن هذه المدينة كانت، في تلك الفترة، المركز السري للحزب الشيوعي التركي الذي كان يدور في فلك الحزب السوفياتي. نشر تحسين يوجل روايته"الأيام الخمسة الأخيرة لرسول" يبدو أن ناظم حكمت سيبقى محط اهتمام الأوساط الثقافية، في تركيا وخارجها، شاعراً وإنساناً، تعرّض لاضطهاد متعدد ومناف للعقل. وسيتواصل اكتشاف جوانب جديدة من شخصيته وحياته، من جانب المهتمين بتراثه.