أشارت الأرصاد الفلكية الحديثة الى ظهور مذنّبٌ جديد يتمتع بلون أخضر أخّاذ، جمال أخضر. والتقطه فعلياً بعض تلسكوبات الفلكيين والهواة، إذ أنه بات على مسافة تقلّ عن وحدة فلكية ونصف من الشمس. والمعلوم أن الوحدة الفلكية تساوي المسافة التي تفصل الأرض عن الشمس، والتي تقدّر بقرابة 150 مليون كيلومتر. وقد بخّرت الشمس الأغلفة الخارجية للمذنّب الأخضر، بحيث تحوّلت الى هالات خضر تتمدّد إلى مسافات كبيرة حوله. وصار قطر المذنّب وهالاته يوازي كوكب المشتري في منظومتنا الشمسية. الأعين الصينية فضائياً اكتشف المذنّب أحد هواة الفلك من الصين. اسمه يانغ كوانزي يي الذي لا يزيد عمره على 19 عاماً. ويدرس هاوي الفلك الصيني هذا في جامعة"صون يات صن". وحقق إنجازه من خلال مراجعته الدقيقة لصور للسماء التقطها الفلكي تشي شِنغ لِنْ الذي يعمل في مرصد"لولِن"في تايوان. ونُشرت تلك الصور على الموقع الإلكتروني للمرصد، كجزء من نشاطه العلمي المعتاد. وسُمّي المذنّب"مذنّب لولِن"نسبة للمرصد الذي تابع مراقبة المذنّب بعد أن أشار إليه التلميذ الصيني الشاب يانغ. يتجه المذنب حالياً نحو دواخل النظام الشمسي مقترباً من الأرض. ومن المتوقع أن يصل إلى أقرب مسافة له من الأرض اليوم. وتبلغ هذه المسافة الدنيا 0.41 وحدة فلكية ما يقارب 60 مليون كيلومتر. ويعادل هذا الرقم 41 في المئة من المسافة التي تفصل الأرض عن الشمس، ويوازي 200 ضعف من المسافة بين القمر والكوكب الأزرق. وانطلاقاً من المعطيات المتوافرة راهناً، فإن التقديرات للبريق الظاهري للمذنب في اقترابه الأشد سيكون بحدود 5 أو 4 درجات، ما يعني أنه لن يكون سهل المنال بالعين المجردة إلا في الأمكنة التي يقل فيها التلوث الضوئي. ويجدر التذكير ان درجة البريق الظاهري لأي جرم سماوي تتغيّر عكسياً مع اللمعان الفعلي لهذا الجرم. وتتراوح درجات البريق بين -26 للشمس و+6 للجرم الخافت الذي لا يرى بالعين المجرّدة. فعلى سبيل المثال يعطي القمر بدراً درجة بريق -13، وكوكب الزهرة ? 4.5، والنجم سيريوس الذي يعتبر الأشد لمعاناً في السماء ليلاً -1.5، والنجم القطبي صفر. وفي سياق متصل، نشرت المراجع المختصّة في"وكالة الفضاء والطيران الأميركية""ناسا" خبر اكتشاف هذا المذنب على الموقع الالكتروني للوكالة. وأشارت تلك المراجع الى إحتمال حدوث مفاجآت في مشهدية هذا المذنب ودرجة بريقه والقياس الزاوي الذي يشكله في السماء. ورجّحت أن تكون زيارة المذنب"لولِن"إلى المنظومة الشمسية الأولى من نوعها. وأشارت الى ظهور المذنّب الأخضر وتحرّكاته تُشكل استعراضاً فلكياً، خصوصاً حين تعرّضه لأشعة الشمس في اقترابه الأقصى منها. وراهناً، ثمة صورة المذنّب"لولِن"في أعلى مُدوّنة جاك نيوتن الالكترونية. واستطاع نيوتن، وهو هاوٍ للفلك من ولاية أريزونا الأميركية، التقاط تلك الصورة في الليلة الأولى من شهر شباط فبراير 2009، مستخدماً تلسكوباً فتحته 35 سنتيمتراً. ويتأتى اللون الأخضر للمذنّب من الغازات المتبخرة في الغلاف المحيط به. وتُغذي المنفوثات المنبثقة من نواة المذنب التي لا يزيد قطرها على عشرة كيلومترات الغلاف الغازي للمذنب بغازي"سيانوجين"والكربون ثنائي الذرات. ويعطي الغازان كلاهما ضوءاً أخضراً حين تضربهما أشعة الشمس مباشرة خلال عبور المذنّب في الفراغ الكوني البارد. والجدير ذكره أن غاز"سيانوجين"يتألف من اتحاد جزيئي بين ذرات الكربون والنيتروجين. ورُصد"سيانوجين"في بعض المُذنّبات في المنظومة الشمسية. والمعلوم أنه غاز شديد السمومية. إذ يتسبب بالموت إذا تنشق الإنسان كميات قليلة منه. وأثناء مرور مذنب"هالي"في العام 1910، أثار تصريح بعض الفلكيين عن وجود هذا الغاز السام في ذيل المذنّب، موجة من الذعر من أن يلطم ذيل"هالي"الغلاف الجوي للأرض وتهطل السماء سُمّاً قاتلاً على الأرض! وغني عن القول أن ذلك الخوف لم يكن في محله، إذ أن الذيل الهشّ لمذنب"هالي"هو أشد وهناً من القدرة عن اختراق الغلاف الجوي السميك للأرض. وحتى في حال اختراق بعض جزئياته لذلك الغلاف، فإنها لا بد أن تحترق وتتفكك بأثر من احتكاكها بذرات الهواء الأرضي أثناء عبورها الفائق السرعة كشهب في سماء الأرض. وفي المقابل، لا يبدو أن مذنب"لولِن"مرشح لإثارة مثل هذه الإشكالية، على رغم لونه الذي قد يذكّر البعض بالسم الأخضر. ويرجع السبب في ذلك إلى ان"لولِن"يبقى بعيداً عن غلاف الأرض، حتى عندما يدنو الى أقرب مسافاته منها. في البحث عن"لولِن" من المستطاع مشاهدة المُذنّب"لولِن"في المنطقة العربية من خلال الاستعانة بتسلكون متواضع. ويجب النهوض قرابة الثالثة فجراً حيث يصبح المذنب في حقل الرؤية قبل شروق الشمس. وقد انتقل المذنّب من برج الميزان حيث أقام في الأسبوع الأول من شهر شباط، إلى برج العذراء حيث مكث خلال الأسبوع الثاني من الشهر نفسه، قبل أن يمر بجوار النجم الألمع في العذراء واسمه"سبيكا" في 16 من الشهر الجاري. وخلال دنوّه من الأرض اليوم، يدخل"لولِن"برج الأسد. ويسهل التعرف إليه نظراً لاقترانه بكوكب زحل خلال غياب القمر. ومن المظاهر المثيرة للاهتمام أن مذنّب"لولِن"يمتلك ذيلين، أحدهما أزرق والآخر قريب من الأبيض. ويظهر الذيل الإيوني الأزرق في شكل مستقيم في الاتجاه المعاكس للشمس، إذ ينتج من تفاعل رياح الشمس وضغط اشعتها، على الجزيئات المشحونة في غاز المذنب. ويتأثر الذيل الآخر، الذي يتألف من غبار، بمدار المذنب. ويخضع لقوانين الجاذبية. وربما ترك قسماً من منفوثاته على المدار كما تترك الطائرة النفاثة دخانها في السماء. وفي المقابل، الأرجح أن لا تظهر هذه التفاصيل بالنسبة لراصدي مذنّب"لولِن"من الأرض. ويرجع ذلك إلى طغيان اللون الأخضر المميز للهالات الطويلة المحيطة بالمذنّب، التي يتوقع أن يزيد انتفاخها كلما اقترب المذنّب من الشمس ليبلغ قطرها حوالى نصف مليون كيلومتر، أي أكثر من ثلاثة أضعاف كوكب المشتري العملاق في المنظومة الشمسية. * استاذ في الجامعة اللبنانية نشر في العدد: 16762 ت.م: 24-02-2009 ص: 36 ط: الرياض