السؤال المربك الذي يتفاعل في الساحة الإعلامية البريطانية الآن هو ما هي أطر"الحيادية"في التغطية الإعلامية البريطانية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وما دفع هذا السؤال الى الواجهة هو هذا الجدل الصاخب الذي أثاره رفض كل من قناتي"بي بي سي" و"سكاي نيوز"بث نداء"الإغاثة الإنسانية لغزة"بذريعة أنه سيضحي بحيادية المحطتين. لقد اشتد وتفاقم انتقاد"بي بي سي"لإيحائها ضمناً بأن حتى مجرد الاعتراف بالمعاناة التي يتعرض لها سكان غزة حالياً والبالغ عدد القاصرين منهم نسبة 56 في المئة، لا بد أن يشكل انحيازاً نحو الجانب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، تظهر دراسة أجراها"الراصد الإعلامي العربي"Arab Media Watch أن هذا المنحى الشاذ في تفسير "الحيادية"ليس حكراً على الپ"بي بي سي"بل هو مرض مستشر في الصحافة البريطانية بمجملها. هذه المعطيات التي تغطي النصف الأول من عام 2008 هي الأولى من نوعها إذ تركز على بحث دقيق معمّق لما دأبت عليه الصحافة البريطانية في وصفها الهجمات المتبادلة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على أنها"انتقامية". وكشفت هذه الدراسة أنه حين تشير الصحافة البريطانية الى جهة تشن هجمات انتقامية تنفذ رداً على هجمات سبقتها وكانت سبباً في شنها، فإن الجهة المعنية تكون الطرف الإسرائيلي بنسبة ثلاثة أرباع من مجمل التغطية الإعلامية البريطاينة للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. أما صحافة التابلويد فقد بلغ الانحياز فيها أوجه اذ وصفت كل الهجمات الإسرائيلية، دونما استثناء، بأنها انتقامية بنسبة مئة في المئة. وانسحب هذا الأمر حتى على تلك الجهات الإعلامية التي ينظر اليها على أنها"متعاطفة"مع الطرف الفلسطيني. فجانبت جريدة"ذي اندبندنت"التغطية المتوازنة حين صورت إسرائيل كطرف يشن الهجمات انتقاماً لهجمات بادر الطرف الفلسطيني إلى شنها ابتداءً في 80 في المئة من تغطيتها ، فيما بلغت هذه النسبة 59 في المئة من تغطية جريدة"ذي غارديان". إضافة الى ذلك، أظهرت الدراسة أن كل الجهات الإعلامية من دون استثناء لم تشر إلى أن عدد الهجمات الانتقامية التي قام بها الطرف الفلسطيني رداً على هجمات بدأتها إسرائيل يفوق تلك التي خص الإعلام البريطاني إسرائيل بها. ولم يتجاوز 20 في المئة عدد مراسلي الصحف وكتاب زوايا الرأي الذين أشاروا الى أن عدد الهجمات الثأرية التي شنها الطرف الفلسطيني رداً على هجمات بدأتها إسرائيل هي أكثر من تلك التي قامت إسرائيل بها رداً على هجمات بدأها الطرف الفلسطيني. وعلى رغم أن أعمال العنف التي مارستها إسرائيل من ضربات جوية وغارات واغتيالات إضافة الى العدوان الذي شنته على غزة في شباط فبراير عام 2008 أسبغ عليها وصف"الانتقامية"بالنسبة للطرف الإسرائيلي و"المحرضة"بالنسبة للطرف الفلسطيني، جرى تصوير العنف الإسرائيلي على أنه"رد انتقامي"ثلاث مرات أكثر مما وصف بأنه محرض على رد فعل فلسطيني. أما الحصار الذي ضرب حول غزة ووصفه ريتشارد فولك، الوسيط الخاص للأمم المتحدة، بأنه"جريمة ضد الإنسانية"، فعدا قلة ضئيلة، لم تعتبره القنوات الإعلامية البريطانية محرضاً يثير ردوداً انتقامية من الجانب الفلسطيني. وفي واقع الأمر، صُورت الصواريخ الفلسطينية على أنها السبب في الرد الإسرائيلي خمس مرات أكثر مما صور الحصار على أنه سبب الهجمات الانتقامية الفلسطينية. أما 41 عاماً من الاحتلال فلم تصور على أنها عاملاً مسبباً لرد فعل فلسطيني سوى مرة واحدة يتيمة، ولم يذكر موضوع إقامة منشآت استيطانية جديدة أو توسيع تلك الموجودة منها كسبب محرض لرد فعل فلسطيني سوى مرتين. وبطبيعة الحال، لا بد لمثل هذا الاتجاه في التغطية الإعلامية من أن يبقي العنف الفلسطيني دونما تفسير، ويظهره على أنه عدوان غير مبرر. وصُور إطلاق الصواريخ الفلسطينية كعامل محرض يثير رداً انتقامياً إسرائيلياً أربع مرات أكثر من تصوير الحصار على غزة أو الغارات التي تشنها إسرائيل أو الاغتيالات التي نفذتها كعوامل تثير ردود فعل انتقامية من جانب الطرف الفلسطيني. وبدا واضحاً من نتائج هذه الدراسة أن الإعلام البريطاني قد تبنى مفهوماً للصراع الدائر يقوم على أساس أن الطرف الفلسطيني عادة هو الذي يبدأ بالعنف فيستجيب الطرف الإسرائيلي لهذا العنف الفلسطيني غير المبرر. وبناء عليه، استقر هذا الإعلام على تجاهل عوامل"مسلسلات العنف"و"الاحتلال والمقاومة"كي يستتب على مفهوم للصراع لا بد أن يكون الأكثر تأييداً للطرف الإسرائيلي وحسمت المسببات قطعياً في مصلحته. وفي نطاق هذا المفهوم، فإن كل التصرفات الإسرائيلية تقع في خانة شرعية"الدفاع عن النفس"، ويتمحور الانتقاد حول ما اذا كان الرد الذي تمارسه"يتناسب"مع نتائج الفعل الذي استدعى هذا الرد. وبرز هذا الأمر في أجلى معانيه إبان التغطية الإعلامية للعدوان الأخير على غزة. فعلى رغم الستار المحكم على أعين الصحافيين، إذ منعوا من الدخول الى غزة أصلاً، استمر هؤلاء في تكريس الادعاء بأن العمليات الإسرائيلية التي ذهب ضحيتها 1300 فلسطيني لم تكن إلا رد فعل انتقامي على الصواريخ التي أطلقها الطرف الفلسطيني، واستقطبت التغطية الإعلامية هذه الصواريخ وبالكاد جاءت على ذكر الحصار الذي ضرب على غزة طوال فترة ثمانية عشر شهراً ماضية سواء لجهة كونه انتهاكاً للهدنة المتفق عليها أو عاملاً مسبباً لإطلاق تلك الصواريخ. وفي نسق مشابه، بالكاد ذكرت الغارة التي شنتها إسرائيل في الرابع من تشرين الثاني نوفمبر عام 2008، والتي ذهب ضحيتها ستة مقاومين من"حماس"ولم تعتبر سبباً أدى الى تجدد إطلاق الصواريخ التي كانت توقفت في شكل كلي تقريباً في حلول تشرين الأول اكتوبر عام 2008 إذ لم يطلق طوال تلك المدة سوى مدفع هاون واحد تلاه صاروخ واحد يتيم. هذه الازدواجية في المعايير هي ما تعتبره الصحافة البريطانية"حياداً"في تغطيتها للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ومن هذا المنطلق، جاء رفض"بي بي سي"بث النداء الإنساني لإغاثة غزة على رغم أنها وافقت على بث نداءات إغاثة مماثلة لمصلحة المدنيين من سكان مناطق الصراع في الكونغو والسودان. وجاء هذا الرفض دليلاً اضافياً على قرار يتبناه الإعلام البريطاني بتبرير التفاوت في معاملة الفلسطينيين قياساً مع معاملة غيرهم من الأطراف المنكوبة على أساس أن هذا"التفاوت"هو من صلب"الحيادية وعدم الانحياز". هذا القرار، في الواقع، يجرد الشعب الفلسطيني من إنسانيته موحياً بأن الطفل الفلسطيني الذي دمر منزله وقطع الماء عنه يختلف، نوعاً ما، عن نظيره الذي يعاني من ظروف مماثلة في أي بلد آخر تفتك به الصراعات. تتكاتف مع القرار السابق الذكر ازدواجية المعايير في تصوير العنف الإسرائيلي كمجرد ردود فعل انتقامية على انتهاكات قام بها الطرف الفلسطيني للإمعان في سلب الفلسطينيين إنسانيتهم مع إضفاء سبغة الشرعية والعقلانية على التصرفات الإسرائيلية في حين يصور العنف الفلسطيني كنتيجة حتمية لبربرية جينية متأصلة وطبع متوحش لا إرادي. وليست هذه الازدواجية في المعايير بالأمر الجديد. فمنذ عقد مضى وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، كتب روبرت فيسك عن أسلوب"نقل الخبر بتحامل يجعل القتل أمراً مقبولا"في وصفه تقارير صحافية اتسمت بتبني الخط الإسرائيلي في تحميل الفلسطينيين مسؤولية العنف الذي خلاله"يسقط الفلسطينيون موتى"في الصدامات فيما"يقتل"الإسرائيليون برصاص القناصة الفلسطينيين. سنوات عشر مرت على ذلك المقال وما زالت ازدواجية المعايير صامدة تخلّد الصراع. نشر في العدد: 16751 ت.م: 13-02-2009 ص: 24 ط: الرياض