منذ 4 أعوام والبابا بينيديكتوس السادس عشر يسعى، على رأس الكنيسة الكاثوليكية، في بلوغ غايات روحية، لاهوتية وكنسية، ولكن الأرجح أن البابا تخلى عن السعي في استمالة معاصريه ونيل رضاهم وإعجابهم. وقراره رفع الحرم عن أربعة أساقفة أصوليين في الوقت الذي اذيع فيه قول أحد الأساقفة المفكر والجاحد وقوع محرقة اليهود الأوروبيين، قرينة جديدة على أن هيئة الفاتيكان جهاز يتباهى بالتعالي عن النزاعات الاجتماعية والسياسية والإعلامية الراهنة، والتنصل منها ومن تبعاتها. وتسويغ التعالي والتنصل هذين بالقول ان البابا ليس منتخباً لولاية من خمسة أعوام لا ينفي أنه على رأس جماعة تعد نيفاً وبليون إنسان، وليس في مستطاعه تجاهل انفعالاتها ومشاعرها. وبعض الجماعة هذه، في أوروبا وفرنسا وألمانيا على وجه التخصيص، يقلقها تعمد رأسها مد يده الى كاثوليك منشقين ومتمردين، خرجوا على الكنيسة منذ إنكارهم ما انتهى اليه وأقره المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في مسائل مثل الحرية الدينية والحوار مع الأديان الأخرى، أو مثل الموقع الإيديولوجي الذي يتمسك به يمين متطرف ومنكفئ على عداء السامية والعصبية عليها. وبعض الكاثوليك يتنازعهم ترجحهم بين ثقتهم في كنيستهم وبين معتقدات لا تتفق والآراء الأصولية. وهؤلاء يتساءلون عما حمل البابا على قراره هذا، فليس مفهوماً أن يبادر بينيديكتوس السادس عشر الى إجراء يعود على الكنيسة بالتشكك والاضطراب بأوروبا، ويصيب بالضرر أواصر تنسج منذ 40 عاماً باليهود وتتعسر على الدوام، ويثقل على كاهل مؤمنين لا يرغبون في الانتساب الى كثلكة رجعية. فالخسائر الفرعية، مهما كان رأي حبر روما في حال الكنيسة وتكاثر المحن عليها، تبدو عظيمة قياساً على المربح المفترض من عودة نحو 150 ألفاً من الرعية وبضع مئات من الرهبان، تعدهم أخوية القديس بيوس العاشر الاكليركية الكهنوتية، تحت جناح روما. وتبرز من العلل التي تساق في تبرير قرار البابا ارادة هذا الملحة أن يبقى ذكره في التاريخ، وبين يدي بارئه، أنه الأسقف الذي أفلح في استيعاب فرقة خرجت على الكنيسة واستعادتها الى الحضن الكنسي. فبينيديكتوس السادس عشر، شأن غيره من البابوات، يرى الكنيسة"جسداً صوفياً وروحياً". وأولى مسؤولياته استعادة النسيج الكهنوتي على حاله من التماسك. وعلى هذا، فوحدة الكاثوليك، ولو شكلية، لا تقدر بثمن مهما غلا. وكان الكاردينال راتسينجير حاول، في 1988، قبل اعتلائه السدة البابوية بستة عشر عاماً، وهي سنة إعلان انشقاق الأسقف لوفيغر، تفادي"الجرح"هذا، فهو على يقين من أن دوام الانشقاق يجعل المصالحة عسيرة. ولعل استعادة المنشقين لقاء اقرارهم من طرف اللسان، بتراث المجمع الفاتيكاني الثاني، والبابا نفسه قال ان تراث المجمع هذا يتمم ما سبقه ولا يجبّه وينكره، لعلها ثمرة رغبة البابا في الدلالة الى حدود المجمع ودائرته التي ينبغي ألا يتعداها. ومن الحدود هذه مصالحة الكنيسة والحداثة الديموقراطية. فخشية البابا من المجتمع الحديث ورفضه"قتام"العالم، وتعاطفه مع التيار المتعاظم من الكاثوليك التقليديين الذين يعتقدون قداسة الشعائر وصدارة القانون الطبيعي، هذه كلها تجوِّز وصفه بپ"المتشدد المعتدل"على قول فيليب بوارييه الباحث في اجتماعيات الأديان. ويحمل معظم الكاثوليك النهج هذا على الانكفاء. وكان هذا رأيهم، في 2007، حين أقر البابا القداس في اللاتينية، وعين أساقفة يحملون لواء هوية تقاليدهم وثقافاتهم المحلية. عن ستيفاني لوبار،"لوموند"الفرنسية، 5 /2/ 2009 نشر في العدد: 16749 ت.م: 11-02-2009 ص: 25 ط: الرياض