لم يكن ظهور تحالف يجمع رئيس الوزراء الأسبق اياد علاوي علماني شيعي وزعيم جبهة الحوار والسياسي صالح المطلك قومي سنّي مفاجئاً، لكن اعلانهما عن تشكيل"الحركة الوطنية العراقية"قبل نحو اسبوع كان كفيلاً بإحياء مخاوف ترددت على لسان مناوئيهما في شأن ما اطلق عليه"عودة البعثيين". ثمة ما يشبه"حالة ذعر"سيطرت على حين غفلة على الاوساط السياسية الحاكمة نتجت منها لقاءات سريعة وغامضة بين اقطاب كتلة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي دولة القانون وائتلاف الاحزاب الشيعية الرئيسة الوطني العراقي لتوحيد التجمعين السياسيين تحت شعار"التوحد خلف هدف منع البعثيين من العودة الى السلطة"!. البعث... شعار انتخابي وعلى رغم ان مثل هذا الشعار يندرج حكماً ضمن حملات الإسقاط السياسي المتوقعة مع الاقتراب من انتخابات مصيرية بكل المقاييس بداية العام المقبل، فإن استخدامه وعلى نطاق واسع بالتزامن مع سلسلة التفجيرات الأخيرة الدامية في بغداد التي تبناها تنظيم"القاعدة"واتهمت الحكومة البعثيين المقيمين في سورية بتنفيذها، يطرح تساؤلات خطرة عن مستوى عجز القوى العراقية الحاكمة عن انتاج رؤية لحكم البلاد وبنائها بعد نحو سبع سنوات من التغيير السياسي، خارج الفلسفة التي تذهب الى القول:"نحن هنا فقط لمنع البعثيين من العودة"!. والتساؤل المطروح اليوم هو: هل ينجح البرنامج الانتخابي القائم على مفهوم"محاربة البعث"في ايصال مجموعة القوى السياسية الموجودة في الساحة الى المواقع نفسها التي وصلتها في انتخابات عام 2005 بالاستناد الى فكرة التمثيل الطائفي والحفاظ على المذهب؟ في الواقع ان الآثار المؤلمة التي تركها البعثيون في جنوبالعراق تبرر الاستخدام المبرمج لهذا الشعار ونجاحه انتخابياً، وإن كان على نطاق اقل اتساعاً من السنوات الاولى التي تلت الاحتلال، مع بروز طبقة سياسية أخيراً مثلت انتقالاً جديداً لمئات الآلاف من البعثيين الشيعة من حضن الاحزاب الدينية التي توافدوا إليها بعد عام 2003 الى تيارات علمانية ومنظومات قبلية. ويبدو ان اصرار الاحزاب الدينية العراقية على إحياء"البعث"ضمن آلية صنع"القرين"بالتعبير الديني الايحائي، او"العدو المهدد"بالتعبير السياسي، والتي مورست خلال السنوات الماضية بإفراط، نجح اخيراً في"انقاذ"البعثيين في العراق من الفوضى الفكرية والأخلاقية والسياسية التي سقطوا فيها كقيادات سابقة او كتنظيمات بعد عام 2003، باعتبار ان هذا التاريخ احتسب كحد فاصل بين فشل التجربة البعثية في حماية العراق وسعي العراقيين الى انتاج نظرية حكم بديلة قائمة على التعددية السياسية. وفي هذا الاطار، فإن تراجع الحديث عن تنظيم"القاعدة"باعتباره الخطر الارهابي الرئيس الذي يهدد العراق والمنطقة وربما العالم، مبرر هو الآخر في ضوء الحاجة التي باتت ملحّة لتوصيف قواعد الصراع بين الأحزاب الدينية نفسها ليكون معيارها الجديد وأيضاً"مهمتها"هي الموقف من"البعث"باعتبار ان الموقف من"القاعدة"بات محسوماً على مستوى العراق. ويمكن بهذا تبرير النقلة الكبيرة في موقف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزبه"الدعوة"من فتح الحوارات مع"البعثيين"وإعلان المالكي استعداده"للحوار مع رموز النظام السابق"قبل شهور الى وصف"البعث"ب"الجرثومة"والتحذير من عودته عبر الانتخابات. تحولات الشارع السنّي والحديث عن تحولات موقف المالكي يحيل الى حديث ذي صلة بتحولات الشارع السنّي الذي اعتبرته اوساط قائمة"ائتلاف دولة القانون"بزعامة المالكي حتى قبل شهور قليلة محسوماً لمصلحتها. فالسنّة كافأوا المالكي في الانتخابات المحلية عام 2009 على تصدره جبهة الحرب ضد المليشيات الشيعية المتهمة بممارسة التطهير الطائفي في بغداد تحديداً على نطاق واسع. لكن الساحة السنية كانت شهدت منذ بداية الغزو تحولات لافتة من احتضان مجموعات مسلحة محلية الى احتضان تنظيم القاعدة ومن ثم الانتقال الى الوقوف خلف التمثيل السياسي السنّي الذي مثلته"جبهة التوافق"قبل ان يتبين ان هذا التمثيل غير قادر عملياً على توفير اي حماية للسنّة، خصوصاً في المناطق المشتركة مثل بغداد والموصل وديالى والبصرة وبابل، ليقدم السنّة منذ عام 2008 دعمهم الى السياسي الشيعي الذي وفر هذه الحماية نوري المالكي. ومعايير هذه الساحة يبدو انها اختلفت مجدداً في غضون شهور لمصلحة الخيار العلماني باعتباره شكّل التمثيل الوحيد الذي يضمن للسنّة ممارسة دورهم السياسي خارج محددات الغالبية والأقلية. وفي مقابل حضور يتوقع ان يكون حاسماً لجبهة علاوي - المطلك التي استقطبت حتى الآن نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وزعيم تيار"عراقيون"الناشط في الموصل اسامة النجيفي، فإن هذا الحضور سيكون متوافراً ايضاً في اوساط العلمانيين والليبراليين والبعثيين الشيعة السابقين المتسربين من صفوف الاحزاب الدينية، وأيضاً في اوساط الناقمين على سطوة الاحزاب الدينية وسوء تجربتها في جنوبالعراق منذ تسلمها مقاليد السلطات المحلية هناك. لكن ساحة الجنوب ستكون مهيأة لصراع آخر يمثل الاحزاب الدينية نفسها بين تحالف"الصدر ? الحكيم"من جهة و"المالكي"من جهة اخرى. وشكل او حجم الخطر الذي تمثله جبهة علاوي - المطلك خلال الشهور المقبلة في الجنوب هو من سيحدد آلية العلاقة بين المالكي والحكيم والصدر، مع ترجيحات ان يتوصل القادة الشيعة الى تسوية قد لا تشترط بالضرورة التوحد في جبهة سياسية وقائمة انتخابية واحدة وإنما يتوقع ان تحصل تسوية تسبق الانتخابات تشمل حضّ الشارع الشيعي على الانتخاب لقائمتي"دولة القانون"و"الائتلاف الوطني"معاً تحت شعار"منع عودة البعثيين"، وربما تقسيم الادوار والمناطق من دون الدخول في صراع انتخابي كبير مع فتح ابواب التحالف ما بعد الانتخابات. وللمرة الاولى يمكن الحديث عن صراع كردي ? كردي سيبرز في محافظات اقليم كردستان الثلاث اربيل والسليمانية ودهوك على خلفية الفرز السياسي الذي انتجته انتخابات الاقليم نهاية تموز يوليو الماضي بين جبهتين رئيستين هما القائمة الكردستانية الحزبين الكرديين الرئيسين وقائمة"التغيير"بزعامة نيوشروان مصطفى التي يتوقع ان تحاول استقطاب الأطراف الاسلامية وبعض الأحزاب اليسارية ضمن جبهة واحدة. لكن مراقبين للساحة الكردية يؤكدون في المقابل ان تياري طالباني ? برزاني لن يتأثرا كثيراً على مستوى الوزن السياسي في الانتخابات المقبلة حتى في حال فشلت جهودهما في دمج الأطراف الكردية بجبهة سياسية واحدة. فالمعايير المحلية الكردية التي سمحت لتيار"التغيير"بنيل قرابة ربع اصوات برلمان اقليم كردستان لا يتوقع ان تنطبق بالنسبة نفسها في نطاق البرلمان العراقي بسبب تحولات ما بعد الانتخابات الكردية، خصوصاً في مدينة السليمانية التي تعد معقل انصار نيوشروان مصطفى. فذهاب سلطة الاقليم الى"الاتحاد الوطني الكردستاني"بعد مرحلة شكوك محلية، وأيضاً تولي برهم صالح رئاسة الحكومة، بالتزامن مع اصلاحات سياسية وحزبية واقتصادية وإدارية واسعة النطاق يجريها منذ شهور حزب طالباني لامتصاص"صدمة"نتائج الانتخابات الأخيرة، كلها مؤشرات الى استمرار نفوذ الحزبين الكرديين على المستوى العراقي، ما يشكّل دوراً مفصلياً في التوازنات النهائية لتشكيل اي حكومة. حشد عشائري طبيعة سيناريوات الصراع الانتخابي في العراق، حَكَمها ظاهرياً نظام اللائحة الانتخابية المفتوحة والدوائر المتعددة 18 دائرة انتخابية بالتوجه نحو اختيار شخصيات مناطقية بديلاً للرموز السياسية، ما يبرر الحشد السياسي الكبير خلف العشائر التي استعادت دورها التقليدي وهي تتحالف اليوم مع الاحزاب الدينية والعلمانية والقومية بالوتيرة ذاتها. ومع الاعتراف بمميزات"القائمة المفتوحة"التي تحولت الى مطلب شعبي وديني، فإن واقع الحال في العراق يدعم توقعات بأن يذهب 80 في المئة من الخيارات على الاقل الى القوائم وليس الى الافراد. وفي المقابل، فإن نظام تعدد الدوائر الانتخابية وفي الوقت الذي يحصر المنافسة شكلياً بقدرة كل قائمة على استقطاب الناخبين لمرشحيها من داخل الدائرة، فإنه اضافة الى هدره الاصوات وفرضه أنظمة معقدة لاحتسابها وفتحه الباب واسعاً أمام الطعون الانتخابية، يدعم بقوة القوائم الانتخابية الكبيرة وربما يحصر الصراع بينها على المستوى العملي. وكمحصلة، فإن تغيير نوع القائمة وأسلوب الانتخاب لن يؤثرا في طبيعة الاستقطابات الجديدة في العراق والتي تقف حتى الآن على شكل ثنائيات حزبية واتجاهات فكرية وسياسية معروفة: علاوي ? المطلك والحكيم ? الصدر وبارزاني ? طالباني، اضافة الى المالكي الذي يواجه خيار الانضمام الى احدى هذه الثنائيات او الدخول في منافسة مفتوحة ضدها. ماذا يريد الاميركيون؟ قبيل الاعلان عن تحالفهما، كان علاوي والمطلك اطلقا من واشنطن حملة علاقات عامة شملت نواباً وسياسيين اميركيين اعقبتها حملة مماثلة في عدد من دول الجوار خصوصاً تلك التي تضم جاليات عراقية كبيرة، وتلك الحملة استفزت على ما يبدو عدداً من السياسيين المقربين من الحكومة الذين حذروا من خطر دعم خارجي غير محدود لإحداث تغييرات سياسية جديدة في العراق، ومضى البعض في القول ان هذا الدعم لا يشمل دول الجوار فقط بل يتعداها الى دول اوروبية وآسيوية والى الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي المقابل، كان المالكي يطلق حملة علاقات عامة من واشنطن ايضاً ولكن عبر استقطاب الشركات الاستثمارية الأميركية في موازاة علاقات اقليمية لحكومته بدت متذبذبة وغير واضحة المعالم. والسياسة الاميركية الجديدة تجاه العراق التي يتولاها كما يبدو نائب الرئيس الأميركي جو بايدن تحاول استثمار النفوذ السياسي والاقتصادي والتلويح بورقة الأمن لضمان شكل حكم معين في العراق غير واضح المعالم، ولكنه على أي حال لا ينتمي الى آلية الحكم الحالية التي سقطت في الخلافات الداخلية. وعلى رغم خطورة التدخل الأميركي في التأثير في اتجاهات حكم العراق على المدى الطويل لجهة امكان ايجاد حيز صراع جديد ودائم يتصدى له غاضبون جدد من السياسة الأميركية، فإن افتراض تشكل آليات حكم للسنوات الأربع المقبلة في العراق من دون ضغط أميركي مباشر يعد ضرباً من المستحيل، وهو ما ظهر على نطاق مكشوف في الدور الأميركي المفصلي في تمرير قانون الانتخابات الذي وصلت الخلافات حوله الى مرحلة هددت العملية السياسية العراقية برمتها. وخلافات مصيرية على غرار ما حدث اخيراً حول قانون الانتخابات ما زالت مزروعة كألغام قابلة للانفجار في المستقبل العراقي، ما يبرر حدوث قناعة عامة في الوسط السياسي العراقي على قبول دور أميركي طويل المدى يحفظ استمرارية العملية السياسية ويجذرها ويمنعها من السقوط في فخاخ الخلافات المؤجلة. وهذا التوافق المحلي لا يقابله بالضرورة توافق اقليمي تبرز فيه ملامح الرغبة الايرانية في الحفاظ على نفوذ قوي مكتسب في العراق بعد 2003 تقابلها رغبة تركيا المندفعة بقوة الى صميم توازنات الشرق الأوسط لسد الفراغ الطويل الذي نتج من الانسحاب العربي الكامل من الساحة العراقية. وفي الجانب العربي، فإن محاولة الدخول الى ساحة الصراع العراقي تتخذ مسارات تتراوح بين الدعم المالي لقوى سياسية او استثمار ورقة اللاجئين العراقيين الذين يصل عدد الناخبين بينهم الى نحو مليون ناخب. والمعادلة العراقية التي تزداد تعقيداً تفرض اجندات متقاطعة احياناً، فما تريده أميركا على مستوى شكل الحكم في العراق قد يختلف عما تفضله دول الاقليم، وهذه الدول وأميركا معاً تتقاطع رغباتها مع ما يريده العراقيون انفسهم باعتبارهم اصحاب القرار في نهاية المطاف، وإن كان توزع خياراتهم وتعدد ولاءاتهم يمنحان دول الاقليم وأميركا فرصة فرض ارادتها لتتقدم على ارادتهم.