لم يسبق لي أن قرأت للشاعر العراقي كاظم جهاد أياً من مجموعاته الشعرية، وهو أمر ليس ناجماً عن موقف مسبق من الشاعر أو من قصائده بل لأنني لم أعثر في دور النشر اللبنانية أو في مكتبات بيروت على عمل شعري منشور له بل على بعض الأعمال المتعلقة بالترجمة والنقد، حتى غلبني الظن بأن الشاعر قد هجر الشعر وانحاز الى مجالات أدبية وفكرية أخرى. لكن القصائد المتفرقة التي قرأتها لكاظم في الصحف والدوريات العربية كانت تشي بغير ذلك وتكشف عن شعرية حقيقية وعميقة المصدر لم أكن أجد ما يبرر إخفاءها وعدم إيلائها الاهتمام الكافي. وحين عثرت أخيراً على مجموعة الشاعر"معمار البراءة"، الصادرة عن"دار الجمل"في ألمانيا، بدا لي كأنني أعثر على لقية حقيقية ليس فقط بسبب شعور بالذنب إزاء عدم تتبعي لمسيرة كاظم جهاد الشعرية بل لأن المجموعة المذكورة أتاحت لي في الوقت ذاته أن أقع على تجربة مؤثرة ومقنعة وقادرة على إصابة قارئها بعدوى التفاعل مع مرجعيتها الحياتية والإنسانية كما مع توهجها الأسلوبي وصدقها في ملامسة الواقع. كنت أظن لأسباب، غير واضحة في أي حال، بأن كاظم جهاد ذا الثقافة العالية والتمرس المعرفي والنقدي لن يستطيع في الحيز الشعري الإفلات من فخ التأليف البارد والمثاقفة الذهنية ولكن"خيبة الأمل"التي اعترتني لدى قراءة المجموعة الأخيرة بدت بمثابة الهدية الثمينة التي قدمها الشاعر لي شخصياً كما لقراء آخرين أيضاً. وإذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه كما يقال فإن عنوان المجموعة"معمار البراءة"هو التجسيد الأمثل لمفهوم كاظم عن الشعر بوصف هذا الأخير معبراً عن المفارقة التي تجمع بين نقيضين شكليين هما الاشتغال والبناء المتمثلان بالمعمار من جهة وشهوة العودة الى الينابيع الحصافية للحياة المتوارية، أي الى براءة العالم وفطرته من جهة أخرى. ولعل الديباجة النثرية القصيرة التي مهد بها الشاعر لديوانه تلامس بشكل سريع هذا الموضوع وترى بأن لا تناقض جوهرياً بين المعمار والبراءة بحيث أن هذه الأخيرة"تنشئ عمائرها وتمضي باحثة عن نقاوة تريدها هي أكثر نقاوة. يمكن أن تكون عمائرها مكتنفة بالأوهام. وفي هذه الحال يكون النضال ضد الأوهام القاتلة والتشبث بالأوهام الجميلة"، وفق تعبير الشاعر الحرفي. كأن الشعر بهذا المعنى ليس استسلاماً عاطفياً سهلاً لإغواء الغريزة المحض او الفطرة الصدفة بل هو اجتراح دائم لبراءة متخففة من أوزار العمى والتخلف والجهل وباحثة عن تحققها في اقتراحات أخرى وصياغات غير نهائية. النقطة الثانية اللافتة في تقديم الشاعر لكتابه الأخير تتمثل في إشارته الى أنه مدين بإصدار كتابه الى أمه بالذات، ليس فقط من الناحية الشكلية أو التقنية بل بما يتعدى ذلك بكثير لكون لقائه بأمه بعد فراق ربع قرن هو الذي أضرم نار الشعر في روحه اليابسة وحمله على العودة من جديد الى غابة الذكريات المتصلة بنشأته الأولى وبمسرح طفولته في العراق. فهذا اللقاء المتأخر بين الأم والابن هو الذي أعاد هذا الأخير الى كتابة الشعر بعد انقطاع طويل عن الكتابة بحيث بدا لقاء للشاعر مع مساقط لغته ومصادر قصيدته التي كانت تغور بعيداً في الأعماق. وإذا كان لهذه الحادثة من دلالة تذكر فهي تكشف عن أن المجموعة الشعرية لم تصدر عن قرار إرادي أو عن سابق تصور وتصميم بل كانت انفجاراً داخلياً يتسم بالتلقائية والمباغتة، وهو ما تكشف عنه عشرات القصائد المثبتة في المجموعة ومن بينها قصيدة"شتات"التي تنقل مفهوم التشتت من إطاره العراقي الجماعي الى تشتت الذات القروية وهي تنقسم على نفسها بين ماضٍ مترعٍ بالأطياف والمشاهد الطفولية وحاضر مثخن بالقسوة والغربة والجحود:"في تنور مطفأ اختبأت ذات ظهيرة/ استنشق الرماد باحثاً عن شفاعة الهواء/ في ظلمته الغامرة نضجت روحي/ وانغلقت في الفضاء مثل ثمرة رمان/ وفي غفلة من الملائكة نبت لي من شدة الوجد جناحان/ منذ ربع قرن وأنا أجابه صخب المارة وجحود الأصحاب/ بخفق هذين الجناحين/ خفق ميمون لا يهدأ إلا ليعاود الانطلاق بأوار أكبر وعافية أشد". في ظل المنفى لم يكن لمجوعة"معمار البراءة"أن تكتب تبعاً لذلك إلا في ظل المنفي أو في ظل المسافة الكافية التي أتاحت لكاظم جهاد كما لآخرين من شعراء العراق أن يحملوا وطنهم على ظهور الكلمات وأن يستدعوا ظلاله وأصداءه الى حيث يتهددهم صقيع المهاجر والمغتربات. فلولا قسوة المنفى وصقيعه القارس لما كان للغة أن تشف الى هذا الحد وأن تكتنه كل تلك الرقة وذلك الدفء، وبخاصة في عالم الغرب الأوروبي الذي تقنن فيه الأحاسيس والعواطف الى حدودها القصوى. ولن يتأخر بأي حال تعبير الشاعر عن تبرمه بعالم الاسمنت والفولاذ والأرقام المجردة وعن حال الانفصام الحادة بين ما يعيشه الآن من عزلة وتوحد وبين ما يحور في أعماقه من فراديس الحياة المنقضية.على أن كاظم جهاد لا يكتفي بالإلحاح على فكرة الوطن والحنين اليه في إطارهما العام وعناوينهما العريضة بل يحاول أن يتجاوز التوصيف العاطفي والرومانسية المستهلكة ليدخل في تفاصيل العلاقة مع الطبيعة والبشر والنبات والرياح والكائنات على أنواعها. فهو يرى الى عماء القبَّرة بوصفه نتيجة حتمية لشدة الوجد، ويتحدث عن الأثر الذي تتركه طلقة الصياد المسددة نحو العندليب في كبد السماء، وعن انتصار الطفل الذي كانه على السم الذي كان ينضح من نظرة الثعبان، وعن استسلام الخنزير البري في صراعه المرير مع عصي مطارديه، وعن عواء الكلاب التي يحملها ضوء القمر الساطع على الجنون. وأعتقد أن الفصل الأخير من المجموعة التي وضع له الشاعر عنوان"هكذا أعيد ابتكارك يا أريافي"هو من أجمل فصول الكتاب وأكثرها تميزاً بحيث تعمل القصائد على مطاردة الحياة الماضية في أكثر وجوهها جمالاً وتقصياً للمشهد الريفي واتصالاً بالسعادة. وإذا لم يكن لنا أن نعثر على نظائر كثيرة لهذه الاحتفالية المشهدية في شعرنا العربي الحديث فيمكن لنا في المقابل أن نرى لهذه التجربة وشائج قربى مع الشعرية العربية القديمة التي لم تتردد على الإطلاق في إزالة الفواصل بين الإنسان وكائنات الطبيعة الأخرى كالحصان والنسر والجمل والغزال وغيرها من المخلوقات التي أحاطت به. كما يمكن لنا في هذا السياق تذكر التجربة المميزة للشاعر السويدي الحائز على جائزة نوبل هاري مارتنسون وبخاصة عبر ديوانه الفريد"باقة برية"الذي يتعقب فيه الشاعر عالم الطيور والطحالب والأعشاب واليعاسيب والحشرات الصغيرة بأنواعها. وكاظم جهاد الذي يضع العنوان الأساس لهذه الفصل من فصول الكتاب يكتفي بعد ذلك بترقيم القصائد المتتالية باعتبارها تفريعاً لقصيدة الطبيعة الأم، حيث نقرأ له في مقطع لافت:"بثبات يتواصل أزيز حشرات الريف/ يرسم في الفضاء المحتقن بفحيح كائناته المتعايشة على مضض/ جملاً موسيقية تهيمن عليها النبرات الحادة/ وتكاد تسمع أحياناً/ ما يشبه صرير منشار هائل/ يقبض على الكون كله/ تحت رحمة أسنانه المصفَّّحة". وتؤكد مجموعة كاظم جهاد الأخيرة على أهمية الشعر بوصفه نوعاً من العزاء في ظل الرعب والقسوة اللذين يواجههما الإنسان في المدن المعولمة، حتى لو كانت هذه المدن من طراز العاصمة الفرنسية ذات التاريخ العريق والحيوية الثقافية النادرة. واللافت في هذا الإطار أن الشاعر في ما يكتب يتخفف من ثقافته النقدية وتحصيله المعرفي وتجربته الحياتية المدينية ليعود نحو طفولته الريفية التي من دونها لن يستطيع الشعر أن يقف على قدميه أو يجد لطيرانه الأجنحة المناسبة. والمجموعة برمتها، عدا استثناءات قليلة تتمثل بالقصائد التي كتبها عن اليد، تغرف من المعين المتدفق لذكريات الماضي، تلك التي تسكن في القلب ثلاثين سنة وبعد ذلك"تنفتح وردة جلية من الدم"وفق تعبير الشاعر. وحتى في قصيدة"دراسة يد"نفسها تبدو تغضنات اليد الإنسانية قريبة من تغضنات الأرض المتشققة من التعب والعطش أو تغضنات الجبين المثلوم بالآلام. وتبدو بعض قصائد المجموعة أخيراً أقرب الى الحكاية أو الأقصوصة التي تعتمد الإخبار والسرد في محاولة من الشاعر لردم المسافة بين الأجناس الأدبية والإفادة من تقنياتها المختلفة. وما يسهم في ذلك النزوع الأسلوبي هو المناخ العام للمجموعة التي تقارب المذكرات أو السيرة الذاتية أو البورتريه الشخصي والجماعي لعالم آخذ في الزوال والتلاشي، كما في قصائد"صورة أبي في شبابه"وپ"إلى رفيق"وپ"مرثية صهري"وغيرها. وإذا كان بعض هذه القصائد يقف على الحافة بين قصيدة النثر وبين النثر الأدبي العادي فإن قصائد أخرى تقف في الخانة المقابلة تماماً كما في قصيدة"اللغز"التي تعتمد التكثيف والإيجاز وملامسة الأسئلة الوجودية المحيرة:"ربما لن ينكشف اللغز أبداً/ مهما نفعل من أجل اكتناهه/ ربما لم يكن ثمة من لغز/ ربما كان يحسن ألا يميط اللثام عن أية ذكرى/ ربما كان يحسن الإيغال في الجهل/ الجهل العارف الذي يجوهر القلب".