يعي الشاعر المبدعُ خطرَ تكرار قصيدة الأمس، قصيدته هو، فينزعُ باستمرار إلى الإفلات من منجزه، من دون أن يضحّي، بالطبع، بنظامه الرمزي الذي شكّل صورتَه. هذا، على الأرجح، ما يريد أن يؤكّده سعدي يوسف في ديوانه الجديد "صلاة الوثني" الصادر عن دار نينوى في دمشق 2004، حيث يوطّد الشاعر حساسيةَ الكلام التلقائي، المرتجل، من دون أن يغفل أهمية "الشكل" في المعمار الشعري، ودورَ المحسّنات البيانية، والوزن، وطرائق السبك والصقل والضبط في بناء القصيدة. وعلى رغم وهم الغزارة أو الوفرة، الذي تشير إليه تواريخ كتابة القصائد، في شكل يوميات تقريباً، غير أن الشاعر لا يترك الكثير للمصادفة، ويعي تماماً استراتيجية الحذف، كأنما على نقيض القصيدة التي ألفناها لدى سعدي يوسف، والتي تكمن قوتُها في عفويتها، وفصاحتُها في صمتها. كما أن سعدي يوسف يريد أن يثبت، ضد منطق الشك الشعري الراهن، أن معيار الحداثة في الشعر ليس بالضرورة وقفاً على التشظّي والبعثرة وإطلاق سراح البياض، ونسف الهارموني الداخلية والخارجية، والتخلي عن وحدة القصيدة، وتأليب البلاغة على نفسها، وتجاوز كل ما هو مألوف. على النقيض من ذلك، يبدو أنه اختار لنفسه، وعن سابق تصور، الإقامة في المتن، متشبثاً بأبوة التقليد الشعري، بعيداً من ضجيج نظريات التفكيك، مكتفياً بثقافته التي لا يستهان بها، وواثقاً من لسعة عكّازه فوق رصيف المعاني. بخبرة تجاوزت الأربعين عاماً، وعشرات الدواوين، يدير سعدي يوسف جملته الشعرية، مُضاءً بهدوء العارف بتاريخية القصيدة. فالهاجس الشعري لديه أرضيٌ، محسوس وملموس، يكمن في المرئيات، ومرتسم على وجوه بشر وتواريخ وأحداث دامية. في قصيدة "الرجل الذي ينظف زجاج النوافذ" يلخّص سعدي يوسف رؤيته الشعرية، القائمة، أصلاً، على احترام المرئي، من خلال توظيفه الاستعارة القريبة السهلة، وأحياناً المباشرة، عبر لمسات خفيفة لا مرئية، واصفاً "بطلَه" المفضّل: العابر، المتسكّع، المنبوذ، منظّف الزجاج، ومنشد المرئيات، الشاعر الذي: "يجلو غائمَ البلّورِ والمنظر،... يأتي هادئاً، غفلاً/ ويمضي هادئاً،/ لكنه يتركُ للصورةِ أن تنصعَ/ للمرآةِ أن تلمعَ كالمرآةِ..." ص 8. والأمر هنا لا يتعلق بموهبة صقل المرآة، وجعلها تشبه المرآة عينها فحسب، ولا باصطياد العابر، ونبش المدفون والمنسي في اللغة والحياة فحسب، بل أيضاً في تلك المهارة التقنية العالية، على رغم محاولة إخفائها، التي تجعل الخبرةَ سابقة على الإلهام، والرموز سابقة على دلالاتها. في قصيدة أخرى يخاطب سعدي يوسف نقيضَه في المرآة قائلاً: "إنك لا تبدو دؤوباً مثل نجّارٍ/ ولا منتبهَ الملمسِ كالخزّاف"/ أنتَ الغافلُ/ الناحلُ/ والتأتاءُ ..." ص 6، ليؤكّدَ النقيض المرتجى، لأنّ الشاعر، في صلاته الوثنية، كما يبدو لي، دؤوبٌ على صهرِ أطيافه، ومنتبهٌ لسبكِ حروفِه" يشحذُ نهايات صوره بأناة، من دون أن يُنقِصَ من قدر التأتأة أو العفوية، متكئاً على عين حادّة، تفرزُ وتصفّي وتختار، هو المتهم بالغزارة على حساب الارتواء، وبالتدفّق على حساب الضبط. تقدّم قصائد الديوان أنموذجاً ساطعاً للتوازن الهارموني بين الشكل والمضمون، على مستوى الإيقاع والدلالة والأسلوب، ربما لأنّ هاجسها المهيمن، وتحديداً الحرب ودلالاتها، لا يحتمل الكثير من اللعب. من هنا لا نعثر البتة على قصيدة معتمة، متناقضة، محكومة بانزياحات النمط وتناقضاته الداخلية، بل نرى قصيدة سعدي يوسف تذهب بثقة إلى غايتها، مبنىً ومعنى، في حركةٍ تصاعدية متوقّعة. وهذا يعني، في ما يعنيه، أن قصيدة الشاعر تؤمن بالتواصل، وليس القطيعة، لأنها استمرارٌ لقصيدة الحسّ أو التجربة لدى أبي نواس، ولقصيدة الكآبة لدى السياب، ولقصيدة الاعترافات لدى كفافي، وربما، بقوة أكبر، لقصيدة التفاصيل لدى وولت ويتمان. والخيط الخفي الذي يربط هذه الحساسيات الشعرية المتباينة ببعضها بعضاً، إنما هو تلك البنية السردية التي تأتي عفويةً تلقائية في قصيدة سعدي يوسف، والتي أرى ريتسوس اليوناني ملهمها الأول. على مستوى "الرؤيا"، يتكئ ديوان "صلاة الوثني" على نحيب خافت، وهو ديوان وداعٍ بامتياز. وسعدي يوسف، المعروف بغرامه بالمكان، نراه هنا يودّع المكان، حتى قبل أن يزوره. لن أقول إنه يقف على طلل المكان، والذي يرمز إليه العراق المحاصر الآن، بل إنه يرثيه رثاءَ من سيغادرُهُ قبل الوصول إليه، من دون أن ينسى أن الوداع شكل أعلى من أشكال المكوث، وفعل تعويض لعناق الأرض، إذ من نودّعهم يعودون إلينا في غفلتنا: "هذه الأرضُ لن تتركَنا/ حتى وإن كنا تركناها.../ سترخي هذه الأرضُ،/ لنا المنجاةَ/ مرساً من حرير الشعر/ مجدولاً،/ ستعطينا، أخيراً، اسمَها ..." ص13. وإذا أردنا الدقة نقول إنه وداعُ من يغادرهُ المكانُ من فرجةِ الباب، فقط ليعودَ إليه من شقّ النافذة، في هيئة أطياف زائرة، تذيبُ برودةَ المنفى قليلاً أو كثيراً. والعراق، بشجره ومائه وشوارعه وصحاريه، بنخيله ومقاهيه وأساطيره، حاضرٌ بقوة في قصائد الشاعر، لكنه حضور المكانِ الموشك على التواري: "أما نحنُ، فإن الأرضَ لدينا متطايرةٌ/ وهشيم/ أخضرُ حيناً، أصفرُ حيناً/ ورمادٌ في الريح..." ص 36. ولأنه لا يريد للمكان أن ينزلق، مرة واحدة وإلى الأبد، في حفرة الغياب المطلق، نراه يتمسّك بذاكرة المكان، هو الطفل الذي يشدّ ثوبَ أمّه - المكان، خوفاً من اليتم، وخوفاً من القاتل الحديدي الذي ينامُ في سرير الضّحية. و"صلاةُ الوثني" عودٌ على بدء الأشياء، مغسولةً من عفن التاريخ، من فحمِ الحربِ، من الراهن المريض، من السياسة، ومن ذنب المعرفة. والقصيدة المهداة إلى الراحل عبدالرحمن منيف، التي أعطت الديوان عنوانه، هي دعوة الى التطهّر من الأنساق المعرفية، قاطبةً، والعودة إلى رحم الأرض- الأمّ، إلى الماء، أول الكلامِ ومنتهاه: "يا ربّ النهرِ، لكَ الحمدُ:/ امنحني نعمةَ أن أدخلَ في الماءِ.../ لقد جفّ دمي/ ونشفتُ/ قميصي رملٌ، وشفاهي خشبٌ" ص 48. والرغبة بالتوحّد مع لحظة التكوين الأولى تعكس، في المقابل، ضحالةَ الراهن، وزيفَه، وتعكس أيضاً الرغبة بمحو قوة التاريخ، الذي تكتبه الطائرات، والالتصاقُ، عوضاً عن ذلك، بقوة الأسطورة، أسطورة الأرض الأولى، تلك "الأرض" التي "برأناها من الماءِ وأعلينا، على مضطرَبٍ من طينِها، سقفَ السماء". ص 13. في قصيدته "الرعيان"، تشديد على تلك العودة، من خلال نداء بعيد، وصلاة، للعودة إلى بداوة الذاكرة، في تصوير غنائي تراجيدي لمحنة الكائن المقتلع من مكانِه، على رغم موته الخرافي في المكان عينه: "ومع السنواتِ،/ مع الريحِ/ مع المطرِ المتبدلِ والمرعى/ سيكون اللّونُ أخفّ/ تكون خطوطُ الصوف ملائكةً/... إذ ذاك يفارقُ واحدُنا عمرَ عباءته، ليموت"... ص36. كأن العراق - المكان الذي "تحرّر"، يغادرُ أبناءَه، بعدما غادره أبناؤه يوماً، في عملية قلبٍ للمصير، جدّ تراجيدية. فالمكان مستباح للطيران المغير "الذي ينقضّ عليّ الآن"، ص 68. وهذا ما يدفع الشاعر للجهرِ بانتمائهِ، ذلك أنه غير معني "بما يفعلهُ الساسةُ في المستنقعِ الآن"، ص53، وصار لزاماً أن يعلن القطيعة، بعدما صار الأفق نهباً لكائنات الحديد، ولدبابات أبرامز، وطائرات الأباتشي، مسجّلاً موقفاً واضحاً، لا لبس فيه، ضدّ جمهرة المتواطئين مع الأجنبي، معلناً: "أنتَ الساحةُ الآن/ فكن أدرى بمن أنتَ/ وكن أدرى بما تفعل،/ فالساحةُ - حتى لو تناست اسمَها أو غفلت عنه - هي الساحةُ/ أنتَ الآن معنى" لا تحاور...". ولأنّ المكان ينسحب من مكانه، كان لا بدّ من اللجوء إلى ذاكرة المكان، والتسلّح بنوستالجيا الأشياء المتلاشية: "يا ما كنتُ آملُ أن أرى وجهَ العراق ضحىً/... لأسألَ الأشجارَ: هل تعرفين يا أشجارُ أنّى كان قبرُ أبي؟" ص15. والحنين، هذا الصديق - العدوّ، الذي يرافق الشاعر أنىّ يذهب، كما في قصيدة "أيهذا الحنين، يا عدوي"، يصيبُ الشاعر في مقتل، ليصبحَ الجوّالَ والمتسكّعَ، وتروبادور المحطات التي لا تنتهي، ولكن، هذه المرة، لا لكي يبدّلَ منفىً بمنفىً، بل لكي يمضي فحسب، لا يلوي على شيء، وربما لا يلوي على وطن. فالسفر، هنا وثني الغاية، يحمل معناه خارجَه، كارتحال الدال عن المدلول، والإبقاء على خرس المسافةِ أو البياض بينهما: "قطاري سيسرع بي، بعد هذي المحطة/ فاهبط/ ودعني أمضي إلى حيث لن يتوقف يوماً قطار". ربما يريد الشاعر أن يقول إنك لن تملكَ المكان ما دمتَ تقيم فيه، والمقيمُ لا يرى. تحمل المكان حلماً، أو رؤيا، كي تظلّ مقيماً فيه. وديوان الشاعر برمته صلاة للإقامة في المكان، العراق، لا كما هو كائن الآن، بل كما يجب أن يكون. وقصائد الشاعر، أقصد يومياته، تكرّسُ تفرّدَ هذا الشاعر الكبير، من حيث وفائه للتجربة الحياتية ومفارقاتها، ومن حيث "كشفه" عن مرآة المشهد، بعدما تكدّست غيوم داكنة فوقه وتحجّرت. وإذا كان التاريخ كذبة من حديد، فإنّ الأرض لا تكذب، ولا بأس أن نهرب إلى الأسطورة، وإلى صلاة الوثني في علاقته بالمكان الأول، مغسولاً من المعرفة وآلياتها القاتلة.