يمثل كتاب"حوادث الزمان ووقايع الديوان"لاسماعيل الخشاب والذي صدرت طبعة منه أخيراً عن المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، حققها محمد عفيفي واندريه ريمون، سجلاً لما جرى في الديوان الذي شكله الفرنسيون في القاهرة بعد احتلالهم مصر حرصاً منهم على إشراك المصريين ولو صورياً في إدارة البلاد. وقد يظن البعض أن تشكيل ديوان يضم شخصيات عامة تجتمع لمناقشة قضايا عامة أمر كان جديداً على المصريين، وهو ما لم يذكره المحققان، غير أن الحقيقة التاريخية تؤكد وجود ما يماثله في مصر العثمانية. كان تشكيل نابليون بونابرت الديوان قائماً على اختيار عناصر من شخصيات مؤثرة في الجماهير، خصوصاً من كبار مشايخ الأزهر لتأثيرهم الروحي ونفوذهم على المصريين، فاختار لأول تشكيل للديوان ثمانية مشايخ هم: الشرقاوي والصاوي والبكري والفيومي والعريشي والسرسي والأمير والمهدي. ويلاحظ من تركيبة هذا الاختيار الذي ساعد في إنجازه ماغون قنصل فرنسا في مصر قبيل الحملة الفرنسية، أنه جمع عناصر متباينة بغرض تمثيل القاعدة العريضة المؤثرة في الأزهر، غير أن هذا الديوان سرعان ما توقف نشاطه. وبعد ثورة القاهرة الأولى في تشرين الأول اكتوبر 1798 أسس نابليون الديوان الكبير من ستين عضواً وانبثق منه ديوان صغير ضم أربعة عشر عضواً، من بينهم خمسة علماء واثنان من التجار واثنان من المسيحيين الشوام وثلاثة من الأجانب واثنان من الشرطة. واستمر عمل الديوان الصغير حتى مقتل كليبر عام 1801. ولم يعقد الديوان الكبير أية جلسة، ومن الملاحظ هنا أن الفرنسيين توسعوا في تركيبة هذا الديوان لتشمل طوائف مختلفة من المجتمع. وعند تولي مينو قيادة الفرنسيين في مصر قرر تأسيس ديوان يضم تسعة أعضاء من المسلمين وأربعة عشر عضواً شرفياً. ويسترعي الانتباه هنا أن كاتب الديوان اسماعيل الخشاب الذي كان مؤرخاً وأديباً وتوفي عام 1815 صاغ جلسات ووقائع هذا الديوان في مخطوطته التي نحن بصددها والتي تعد سجلاً لوقائعه، وكان مينو عهد اليه إدارة صحيفة"التنبيه"التي كانت مصدر المعلومات عن نشاط الديوان. التحليل العام لوقائع الديوان يكشف أن دوره لم يتعد دور ديوان المظالم الذي عرفه المسلمون منذ العصور الإسلامية المبكرة وتبلور بصورة خاصة خلال حقبة الخلافة العباسية وأصبحت له منشأة يختص بها لعرض المظالم عرفت بديوان العدل أو دار العدل خلال حكم الزنكيين والمماليك. وربما يكون هدف الفرنسيين من هذا الديوان هو امتصاص الرأي العام المعارض لوجودهم في مصر ومحاولة استماله كبار الشخصيات لمشروعهم. لذا نجد هنا حرصاً منهم على الاستجابة لما يعرض على الديوان، خصوصاً ما يرتبط بتوفير الأمن كاعتداء بعض الجنود على حريم المماليك في بيوتهن، وكذلك الحد من تدخل الفرنسيين في الحياة اليومية للمصريين. ويستوقف انتباهنا في نص إحدى الجلسات ما ذكر في عريضة للشيخ المهدي موجهة للقائد الفرنسي يذكر فيها ما يأتي:"قد عاملتنا وقت افتتاحك مصر وانتصارك معاملة أناس كأنهم اختاروك عليهم مع قوتك واقتدارك". هذه العبارة تكشف مدى نجاح الفرنسيين في التأثير على بعض مشايخ الأزهر. وما جاء في تقارير الديوان يكشف سلبية عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ المشهور تجاه الفرنسيين، فأثناء عضويته في الديوان اتخذ مواقف سلبية من كل ما يعرض عليه، كما كشف الكتاب اعتماد الجبرتي في كتابه"عجائب الآثار"على ما كتب اسماعيل الخشاب وإن لم يذكر ذلك. اليوميات تكشف أيضاً تضاؤل دور الفرنسيين في المؤسسات القائمة في مصر، كالأزهر والأوقاف ونقابات الحرفيين وتركيزهم على جباية الأموال. * كاتب مصري نشر في العدد: 16710 ت.م: 03-01-2009 ص: 25 ط: الرياض