لم يكد القصف الإسرائيلي على غزة وهدير الدبابات الزاحفة على البشر والحجر أن يتوقف، وتنجلي بالتالي صورة الدمار الهائل مقرونا بحجم الخسائر البشرية الكبير، حتى اندلع خطاب بائس من قبل حركة"حماس"والفصائل الدائرة في المعسكر الايراني- السوري يخوّن السلطة الفلسطينية ومعها حركة فتح والفصائل والقوى غيرالمنضوية في معسكر"حماس"، ويتهمها بالعمالة والتواطؤ مع العدوالصهيوني، مطلقة أبشع الصفات التي لا تتناسب أبداً مع النضال الفلسطيني الذي خاضته جميع الفصائل من دون استثناء وتصدت فيه ببطولة إلى الإجتياح الإسرائيلي لغزة. عاد المشهد اياه الذي عرفه لبنان في أعقاب حرب تموز 2006 والذي اطلق فيه"حزب الله"ومعسكره اتهامات الخيانة التي لم توفّر احداً. هكذا تتكرّر الاحداث التاريخية،"في المرة الاولى على شكل مأساة، وفي المرةالثانية على شكل مهزلة"، ففي لبنان قبل عامين كانت المأساة وفي فلسطين اليوم هي المهزلة في أعلى تجلياتها. من حق المواطن الفلسطيني والعربي أن يتساءل، فيما يعتصره الألم، عن هذا الخطاب التخويني المندلع بقوة هذه الايام وعن العوامل الكامنة وراء هذه الفورة. كما حصل في لبنان سابقاً، يهدف الخطاب التخويني الى صرف النظر عن حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية التي تسبّبت بها حسابات خاطئة من قبل حركة"حماس"، ممّا يعني استباق أي اسئلة سيطرحها المواطن الفلسطيني عما حصل، ولماذا جرى ما جرى؟ مما سيضع حركة"حماس"في واجهة المحاسبة عن القرارت التي اتخذتها والممارسات التي ارتكبتها ومدى مسؤولية ذلك عن الحرب التي شنتها اسرائيل، وهو أمر تدرك"حماس"أنه لن يكون لصالحها شعبيا وسياسيا. لذا لا تجد حرجا في تحريف الموضوع واختلاق موضوع آخر يوضع فيه الشعب الفلسطيني كله في قفص الإتهام حول الخيانة والتواطؤ والعمالة للعدو، لأن خطاب"حماس"هذا ستواجهه القوى الفلسطينية بخطاب اتهامي ليس هناك من ضمانات لأن يبقى في اطار الموضوعية والوطنية الفلسطينية، بل سينزلق حكماً الى لغة اتهامية مباشرة، تعيد الى الصورة ما عاشه الشعب اللبناني الذي تحول خائناً وعميلاً وكافراً ومرتداً وفق الأوصاف التي تبادلتها الاطراف المتصارعة خلال عامين. ترافق خطاب التخوين مع إعلان النصر الفلسطيني على الجيش الإسرائيلي، وهو هنا أيضاً كان"نصراً الهياً"، وهو استحضار للغيبيات يبدو ضروريا في سياق استيعاب نفسي للصدمة وتعويضا من الله في الجنة للشهداء الذين سقطوا في المعارك. يقدم اللجوء الى الغيبيات العزاء اللازم والمطلوب تقديمه للشعب، ويسهل تمرير الخطاب"الديماغوجي"المطلوب"تسييده"في هذه المرحلة. يحتاج خطاب"النصر"الى مناقشة هادئة لتبيان الحقيقي منه والشكلي بل التزويري. في العام 2006 ، قاتلت المقاومة بقيادة"حزب الله"ببسالة وأمكن لها الحاق خسائر فعلية في الجيش الاسرائيلي وفي معنوياته وغطرسته، وهو أمر يسجل في خانة النصر النسبي على العدو. يمكن إطلاق الحكم نفسه على الفصائل الفلسطينية جميعها التي قاتلت في غزة والحقت خسائر ايضا بالجيش الاسرائيلي على رغم الأختلال الساحق في ميزان القوى لغير صالح الفلسطينيين، فيسجل هذا الصمود أيضاً في خانة النصر النسبي بما هو مواجهة. خلافا لمنطق المقاومة في لبنان أو في فلسطين التي حددت بنفسها أهداف اسرائيل من الحرب وقاست عليها الهزيمة أو الإنتصار، وعلى رأس هذه الأهداف اقتلاع المقاومة والقضاء عليها، وهو ما فشلت فيه اسرائيل في لبنان سابقا وفي فلسطين راهناً. هنا يجب النقاش، حيث من المعروف انه من المستحيلات على اسرائيل ان تتمكن من القضاء على مقاومة هي جزء من الشعب، بحيث سيكون عليها ابادة هذا الشعب جسديا ليمكن القضاء على حركة المقاومة فيه، وهذا ما لن تستطيعه اسرائيل سابقاً أو راهناً أو مستقبلاً. لكن مقاييس النصر او الخسارة لدى اسرائيل تقع في مكان آخر، فالهدف الإسترتيجي لإسرائيل كان دوماً منذ قيامها أن تؤمّن هدوءاً على جبهتها مع البلدان العربية من جهة، وان تحوّل القوى"المعادية"لها،اي العرب، الى اقتتال داخلي بين بعضها البعض. في ترجمة ذلك لبنانيا، نجم عن حرب تموز 2006 حصول اسرائيل على ضمانات لمنع تجدد المقاومة المسلحة من الأراضي اللبنانية، وهو أمر قائم للسنة الثالثة على التوالي من دون لجوء"حزب الله"الى تنفيذ أي عمل عسكري من لبنان. كانت الحرب على غزة أهمّ اختبار لما حققته اسرائيل من إنجاز في حرب تموز على هذا الصعيد، وهو ما تجلّى في التزام"حزب الله"يينود القرار 1701 وامتنع بالكامل عن النجدة غير الدعاوية للمقاومة في غزة. هذا من جهة. من جهة اخرى، قد يكون الإنجاز الأكبر الذي حققته اسرائيل في حرب لبنان هو نجاحها في تحويل"حزب الله"الى الداخل اللبناني وإغراقه في وحول الحرب الاهلية اللبنانية، والأدلّة على ذلك كبيرة ليس أقلّها احداث ايار عام 2008 والمستمرة حتى اليوم في تفاعلاتها، مما نزع عن المقاومة الى حد كبير جدا صفتها الوطنية وطابعها المقاتل ضد اسرائيل، وبحيث تحوّل سلاحها الى سلاح تمتلكه طائفة وتقوم وظيفته في تكريس هيمنة طائفية محددة وتهديد دائم بتغيير المعادلات الداخلية بالقوة. هذان الإنجازان اللذان حققتهما اسرئيل في لبنان مرشحان للوضع نفسه في غزة، حيث يتوقّع أن تسفر الحرب عن ترتيبات امنية تسمح بتعطيل المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وتؤمن الهدوء لحدودها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سينجم عن هذه الترتيبات إندلاع حرب أهلية فلسطينية- فلسطينية ستقودها حركة حماس وتمنع بموجبها أي عودة الى الوحدة الفلسطينية، وهو أمر لم يتأخر حصوله لأن الخطاب التخويني الذي انطلق اطلق صفارات إعلان هذه الحرب، وهو ما ترغب به اسرائيل وتعمل من أجل حصوله بشكل دائم. وللتذكير اغتالت اسرائيل ياسر عرفات لأنه، في جانب أساسي من ممارسته، استعصى بالنسبة لها على السماح باقتتال أهلي فلسطيني طوال حياته. يطرح خطاب التخوين المتواصل عربياً معضلة تخلف مجتمعاتنا التي تعجز دوماً عن الإحتكام الى الديموقراطية والوسائل السلمية في حل مشاكلها. لا تزال الأيديولوجيات الإقصائية والإستئصالية، سوا أكانت دينية أم قومجية، تتحكم بالعقل العربي وبالقوى المهيمنة داخل المجتمعات العربية، وتنتج دوماً حروباً اهلية ومذهبية تشكل بحد ذاتها"النصر"الذي تفخر اسرائيل في تحقيقه على العالم العربي. * كاتب لبناني