إلى سنوات قليلة كان الكاتب الأميركي ثم الفرنسي ريتشارد رايت منسياً تماماً، حتى وإن كانت كتبه الرئيسة ظلت في البال، وفي مقدمها"ابن البلد"وپ"اللامنتمي". فالحال أن أموراً كثيرة كانت تبدلت منذ بداية عقد الستينات حين رحل هذا الكاتب الأميركي - الأفريقي، وهو بعد في الثانية والخمسين من عمره. كما ان مبارحته الولاياتالمتحدة باكراً، تحت ضغط الماكارثية، إضافة الى خلافه في نهاية الأمر مع الحزب الشيوعي الأميركي الذي كان من محبذيه، ثم رفضه ان يسير حذو بقية الشيوعيين السابقين منضماً الى منظمة حرية الثقافة لأنها، بحسب رأيه المبكر الذي صار يقيناً في ما بعد، مجرد فرع من فروع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كل هذا ساهم في وهدة النسيان التي رُمي فيها. فإذا أضفنا الى هذا ان أميركيين - أفارقة كثراً ملأوا الساحة الثقافية الأميركية من بعده، تبدو أكثر جذرية منه، يمكننا ان نفهم غياب اسمه عقوداً طويلة. ولكن اليوم، بعد ان ترسخت طوني موريسون باعتبارها الأديبة الأميركية الأكبر واستعادة ذكرى كل الكتّاب السود من خلالها ثم منذ ترشيح باراك أوباما، ثم انتصاره كأول رئيس اميركي - افريقي للولايات المتحدة، كان من الطبيعي ان يعود ذكر ريتشارد رايت بقوة، كما من الطبيعي ان نتوقع اعادة اعتبار قوية له في اميركا، وكذلك ايضاً في فرنسا، التي أعطته جنسيتها عام 1946، في وقت كان انضم الى التيار الوجودي اليساري وصار صديقاً مقرباً لجان ? بول سارتر وألبير كامو. والحقيقة ان ريتشارد رايت، منذ أقام في فرنسا، راح ينشط في اتجاهات عدة: بدءاً من رفد الأدب الوجودي بمناخ نضالي كتابي حقيقي، وصولاً الى مساندته حركات التحرر الوطني، التي أدت الى استقلال بلدان عدة في آسيا وأفريقيا، مروراً بالانجذاب الى حيز الحياد الإيجابي، ومناصرة مؤتمرات مثل باندونغ ، بالتالي الارتباط بصداقات مع كبار وجوه حركات التحرر الوطني الاستقلالي في ذلك الحين. وكان على رأس هؤلاء يومها كوامي نكروما، الزعيم الوطني والأسطورة للدولة التي صار اسمها منذ حصولها على الاستقلال: غانا. ومن هنا كان طبيعياً لريتشارد رايت ان يخص غانا ونكروما، بكتاب يمكن ان ننظر إليه اليوم، مع مرور الزمن، بوصفه نصاً مميزاً في الكتابة السياسية، وعملاً نظرياً يتحدث بدقة وكرم، عن بدايات الحركات الاستقلالية طارحاً أفكاراً لو طبّقت لكان من شأنها ان تقي الاستقلالات المهاوي التي وقعت فيها ودمّرتها، جاعلة كثراً من الناس يترحمون على عهود الاستعمار. طبعاً، لم يكن من شأن كاتب ومناضل مثل ريتشارد رايت، أن يكون واحداً من المترحمين، وربما لأن القدر أماته باكراً، أي قبل ان تتكشف العورات، ويحل التطرف محل العقل والهزائم محل الانتصارات. لكن هذه حكاية أخرى طبعاً. في كتاب رايت الذي نتحدث عنه هنا وعنوانه"القوة السوداء"يجري الحديث في اتجاه آخر تماماً. في اتجاه الأمل وتوقعات الغد المشرق، إنما من دون ان تغرب عن بال الكاتب، ضرورة التنبه والتفحص العقلاني قبل الإقدام على اية خطوة من الخطوات. في هذا الإطار، يمكننا ان نضع ريتشارد رايت في صف واحد مع فرانز فانون، ذي الأصل الأفريقي بدوره. فهما معاً كانا من الذين يرون باكراً ما لا يراه الآخرون، إلا متأخرين، وينبهون قبل أن يصبح الندم سيد الموقف. ونحن بهذا الكلام كأننا نختصر كتاب"القوة السوداء". قبل أي شيء آخر، يمكن القول عن كتاب"القوة السوداء"انه كتاب في أدب الرحلات، لأنه ? في الأصل ? تقرير مطول عن زيارة قام بها الكاتب الى ذلك البلد الأفريقي الذي كان يسمى في ذلك الحين"ساحل الذهب". كانت الرحلة عام 1953، ونشر الكتاب للمرة الأولى في الولاياتالمتحدة عام 1954. وكانت تلك الحقبة هي تحديداً، الحقبة التي حصل فيها ذلك البلد على استقلاله الذاتي بعدما كانت بريطانيا تحكمه منذ العام 1844. وشهد ريتشارد رايت بأم عينه وكضيف مكرّم، رئيس حكومة ساحل الذهب، كوامي نكروما، وهو يقدم الى المجلس التشريعي قانوناً يطالب بالتحول من الاستقلال الذاتي الى الاستقلال التام وهو ما لن يحصل عليه نكروما إلا في العام 1957. لقد كانت تلك الزيارة أول احتكاك لريتشارد رايت بأفريقيا. غير انه سيقول لنا ما لم نكن ربما في حاجة الى ان يقوله، أي ان اهتمامه بأفريقيا وبالجذور الأفريقية للسود الأميركيين، يعود الى زمن أبعد كثيراً. فهو منذ بدء ممارسته الكتابة والنضال في وقت واحد، وفي كل كتبه سواء كانت روائية أو سياسية أو ما شابه ذلك، كان يركز على ذلك الجذر الأفريقي معبّراً عن ضرورة الاتصال به. ومن هنا كان ذلك الاحتكاك له بساحل الذهب، وبكوامي نكروما، عام 1953، أشبه بتحصيل حاصل، غير ان الزيارة لم تدم سوى اسابيع قليلة، شغل جزءاً اساسياً منه لقاءاته مع نكروما وقادة الحزب الحاكم والأكثر شعبية في البلاد -، وكذلك لقاءات أخرى أجراها مع أبرز قادة المعارضة، ومع أبرز مثقفي البلد. وكنتيجة لتلك اللقاءات، تمكن رايت من ان يضفي على مشاهداته، التي دونها في فصول الكتاب، نكهة سياسية نظرية مؤكدة. ولعل أبرز ما قاله رايت في هذا السياق، هو استحالة ان يتمكن المثقفون المعارضون وعلى رأسهم في ذلك الحين دانكاه وبوسيا، من إزاحة نكروما للحلول محله في السلطة، على رغم قيمتهم الفكرية والجامعية وشعبيتهم في أوساط النخبة. ولعل الفصل الذي يحكي فيه رايت عن هذه المسألة، يكون أهم فصول الكتاب. بل لربما يكون من افضل ما كُتب حول مسألة الزعامة في العالم الثالث. ذلك ان ريتشارد رايت يفسر لنا هنا كيف ان نكروما، كان الزعيم الوحيد الذي تمكّن من ان يحيط الانقسامات القبلية بغلاف سياسي منظم. هو لم يستغل القبائل ويحرضها على بعضها البعض، بل اكتفى بأن يغلف حياتها بالحد الأدنى من التنظيم السياسي، ما جعل حركته، التي لم ترجح قبيلة على الأخرى، قادرة على ان تقدم نفسها ممثلة لكل القبائل. وهذا ما جعل أي حديث عن غلبة لفريق سياسي آخر، ومهما كانت نياته طيبة، هو أشبه بالحديث عن صراع بين قبيلة وقبائل أخرى. لكن هذا لم يكن كل ما يهم ريتشارد رايت من نظرته الى ساحل العاج. فهو بالتدريج راح يقلّص من حديثه عن الماضي والحاضر، ليبدو أكثر وأكثر اهتماماً بالمستقبل، بحيث بدا في نهاية الأمر ان هذا المستقبل هو الهم الرئيسي لهذا الكتاب، وضمن هذا الإطار بات واضحاً ايضاً ان واحداً من هموم رايت الرئيسة هنا، العثور على حلول تخلّص هذه المناطق، مستقبلاً، من الوقوع في فخ ازدواجية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وبالتالي بين الشرق والغرب. وهذا الهم هو الذي جعل الكاتب قادراً في نهاية تحليله على ان يقدم صورة نموذجية، تبدو مستقاة من أفلاطون والفارابي في آن معاً، للحاكم الذي يمكن ان يكون ديكتاتوراً تقدمياً أو مستبداً عادلاً يكون من أولى مهامه ان يخرج بلده من البؤس، بعيداً من التطاحن السياسي، وأن يقوده الى درب المستقبل ودخول زمن العالم. ولعل في إمكاننا ان نجد هذا الهم نفسه يشغل بال ريتشارد رايت في كتاب آخر له، يحوي الأفكار نفسها ولكن موسعة لتشمل البلدان التي كان زعماؤها اجتمعوا في باندونغ. وهذا الكتاب الذي صدر عام 1955، كان يحمل بالتحديد عنوان"باندونغ"... والحال انه اذا كان هذان الكتابان فاجآ كثراً من قراء ريتشارد رايت الذي كانت شهرته الأساس قائمة على رواياته الكبرى، فإن الذين اطلعوا على سيرته، كانوا يعرفون ان رايت المولود عام 1908 ليرحل عام 1960 في فرنسا، بدأ حياته مناضلاً سياسياً، في سبيل قضية الطبقة العاملة أولاً، ثم في سبيل قضية السود الأميركيين، فالشعوب النامية. وإنه ما بدأ يكتب الروايات والقصص، إلا خدمة لأفكاره السياسية، حتى وإن كان سيقال لاحقاً ان كل تلك الأفكار لم تتمكن من ان تفسد موهبته الأدبية التي تجلت في أعمال لا تزال تُقرأ على نطاق واسع حتى الآن، وستُقرأ أكثر مع وصول الرئيس أوباما الى سدة الرئاسة الأميركية، ومنها، الى ما ذكرنا"ابناء العم توم"وپ"إجازة ضارية"وپ"الحلم الطويل"وپ"قانون أب"وپ"8 رجال"... الخ. [email protected]