قليل منا من يهتم بأزمات أفريقيا الإنسانية فضلاً عن أن يهتم بما يدور في سياساتها الداخلية، ولعل الواحد منا على الأرجح لا يسمع باسم بلد أفريقي إلا وقت حدوث أزمة إنسانية.. ؟ بالكاد نجحت قوات الرئيس إدريس ديبي في صد هجوم المجموعات التشادية المسلحة، فخلال أربعة أيام دارت المعارك حول القصر الجمهوري في نجامينا، حتى ظن العالم أن تشاد وقعت في أيدي المسلحين ولكن الرئيس ديبي - الذي نجا من أكثر من عشر محاولات للاغتيال - رفض اللجوء لفرنسا، واحتفظ بالسلطة حتى الآن - أو هذا ما تنقله وسائل الإعلام - ، فيما تجدد الفصائل المسلحة تهديداتها بهجوم آخر وشيك. على المستوى المحلي فوجئ السعوديون بوفاة اثنتين من رعايا السفارة السعودية في نجامينا على إثر قنبلة استهدفت منزل السفير، وهو أمر يبعث على الحزن - والاستغراب كذلك - ، فوجود عائلات سعودية هناك غير واقعي لأن الوضع في تشاد كان متوتراً للغاية خلال الأشهر 18الأخيرة، ولعلنا نتذكر أن الهجوم الذي نشهده على العاصمة هو الهجوم الثاني بعد هجوم مشابه شنته الفصائل المسلحة على العاصمة في أبريل 2006، وبحسب متابعتي فإن تشاد لم تغب أبداً عن مؤشر الدول الأكثر خطورة منذ ذلك التاريخ. بيد أن ما نأمله هو أن يكون أفراد السفارة وبقية الرعايا قد خرجوا بأمان من ساحة الحرب هذه. قليل منا من يهتم بأزمات أفريقيا الإنسانية فضلاً عن أن يهتم بما يدور في سياساتها الداخلية، ولعل الواحد منا على الأرجح لا يسمع باسم بلد أفريقي إلا وقت حدوث أزمة إنسانية، كالتدخل الأمريكي - الأممي في الصومال (1993)، أو التطهير العرقي في راوندا (1994)، أو أزمة دارفور (2003). طبعاً، الجيل المخضرم من الآباء يتذكرون أفريقيا برؤية مختلفة تماماً عن رؤيتنا الحالية. فعلى الرغم من تفشي الفقر والجهل في أفريقيا الوسطى أواسط الخمسينات والستينات إلا أن الاستعمار كان قد أقام مؤسسات حديثة وأرضية للحكم المدني، ومع تنامي حركات الاستقلال بقيادة أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة في الغرب كانت هناك نظرة احتفاء وتشجيع لبعض القيادات الأفريقية هنا وفي العالم العربي، وكانت أسماء بعض الرموز الأفريقية مثل كوامي نكروما (الزعيم الغاني)، وجوما كنياتا (الزعيم الكيني) معروفة ومقدرة. وحتى مع تنامي الحركات الثورية العسكرية المتعاقبة في أكثر من بلد أفريقي لم يخب الأمل في أن تتحسن الأحوال في القارة السمراء، ولعل نضال نيلسون مانديلا ضد التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية قد ألهم الكثيرين حول العالم. الأزمة الحالية في تشاد نموذج لأزمة الحكم في أفريقيا، ورغم أن لدينا مشاكلنا في المنطقة، إلا أن النموذج الأفريقي لاسيما في أفريقيا الوسطى هو الأكثر دموية وخطورة. الذين يتذكرون حوادث التطهير العرقي بين الهوتو والتوتسي في رواند بعد اغتيال الرئيس كيباندا يدركون ما أقصد. تشاد لها أهمية كبيرة في منظور الأمن الإقليمي العربي، فهي تحاذي السودان وليبيا، والحرب الأهلية التي تجاوزت ثلاثة عقود ارتبطت في فترات منها بالسياسات العربية لاسيما نهاية السبعينات، حين جددت ليبيا ادعاءاتها بقطاع أوزو الحدودي، واحتلته في 1983، ومنذ ذلك التاريخ دخل التشاديون في حرب ليس مع ليبيا فقط، بل مع مجموعات عربية كبعض المقاتلين المتطوعين الذين جاؤوا من الجزائر والسودان، وحتى من لبنان أيام التقارب بين الحزب التقدمي الاشتراكي والرئيس معمر القذافي، ولعل من المفارقات أن التشاديين الذين عانوا من التدخل الأجنبي في شؤونهم لم يحققوا وحدتهم القصيرة نسبياً إلا حين قرروا طرد الاحتلال الليبي (1987) فيما عرف بحروب "التويوتا"، نظراً لاستخدام مركبات التويوتا اليابانية. بيد أن طرد الاحتلال، والاستقلال من الحكم الأجنبي لا يأتي بالضرورة معه بالحكم الرشيد، حسن هبري ( 1982- 1990) زعيم جبهة التحرير، الذي صعد نجمه خلال الثمانينات سلك نفس الطريق الذي سلكه معاصروه وجيرانه فألغى الحياة السياسية، وتحول إلى نظام ديكتاتوري متسلط. بيد أن ذلك ليس الأمر الاستثنائي، بل إن السلبي في تجربته هو سلوكه مسار التمييز العرقي ضد قبائل "الهاجريا" و"الزحقاوة"، وهذا ما قاد في النهاية أحد جنرالاته إدريس ديبي (الزحقاوي) إلى الانقلاب عليه. حالياً، لا تبدو الصورة بعيدة عما كانت عليه في أعوام (1979) و (1990). فلدينا رئيس ضعيف للغاية، وتحالف من المليشيات المسلحة في الشمال والجنوب لا يوحدها إلا معارضته. أما الموقف الدولي والفرنسي فما زال يدعم موقف الحكومة لا لشيء إلا لأنه يخشى الفراغ في حال استولى الثوار المسلحون على السلطة وتناحروا فيما بينهم. أيضاً، هناك منولوج إقليمي معاد، حيث أخذت السودان مكان ليبيا في النزاع، وتحول النزاع من قطاع أوزو إلى إقليم دارفور. اليوم، يتم النظر إلى الحكومة السودانية بوصفها المسؤولة عن التخطيط والإمداد للهجوم الأخير، والرئيس الفرنسي الذي أغضبته التطورات الأخيرة أمر سلاح الجوي الفرنسي بمراقبة الحدود السودانية - التشادية خشية وصول الإمدادات السودانية لتحالف المقاتلين التشاديين. تقرير مجموعة الأزمات الدولية (يناير 2006) يلخص الأزمة في تشاد في ثلاثة مؤثرات أساسية: فساد منظم للحكومة، ونهب لثرواتها وإهمال متعمد للخدمات الشعبية في بلد لا يبدو أن ثروته النفطية تفيد أحداً. ثم هناك الصراع داخل دائرة الرئيس ديبي على خلافته، وأخذه منحاً عرقياً. وأخيراً، أزمة دارفور التي ظن التشاديون أنهم عبرها يستطيعون الضغط على السودان، ولكن النتيجة كانت أنهم أصبحوا أكثر المتضررين منها. لا أظن أن هجمات المتمردين ستتوقف، والخطير في الأمر أن تشاد مقبلة كما يقدر عدد من الخبراء على صراع أهلي عرقي هذه المرة. السعودية حاولت خلال المرحلة الماضية التوفيق بين السودانيين والتشاديين، وكنا نأمل أن يخفف اتفاق مايو (الرياض) من الأزمة، ولكن للأسف استمر القتال ودعم الطرفين لمتمردي كل واحد منهما. وباءت أيضاً محاولات الاتحاد الأفريقي بالفشل. إذا تمكنت حكومة ديبي من الاستمرار خلال الأسابيع القادمة، فستكون فرصتها الأخيرة. الحاجة اليوم إلى حل - ولو مؤقت - للأزمة هو أمر ضروري. تأملوا معي، لدينا وضع مضطرب في أفريقيا الوسطى لم نشهد له مثيل منذ الستينات، كينيا في ورطة وعلى شفى حرب أهلية، والسودان دخل في عامه الرابع منذ أن تفجرت أزمة دارفور، فيما ما تزال أزمات مثل الصومال والكونغو الديمقراطية، ونيجيريا قائمة. هناك تعبير استخدمه عالم السياسة الأمريكي الشهير صموئيل هنتغتون لوصف هذه الظاهرة، وهو "متلازمة الدولة النسيبة" (kin country syndrome): حيث تتقاطع الأعراق في محيط جغرافي لعدة بلدان، ثم تتطور الأزمة حين يصل كل عرق إلى السيادة على دولة، فيسلكون مسار التمييز ضد غيرهم من الأعراق، مما يؤثر بالتالي على مشاعر سكان الدولة المجاورة فيثورون لنجدة إخوتهم في العرق، وتتحول مخيمات اللاجئين على حدود كل دولة إلى مصدر للمقاتلين، وحيث تعمل ضغائن اللاجئين على تدوير الأزمة. ربما تكون الأزمة بين الهوتو والتوتسي في راوند وبوروندي أبرز مثال كلاسيكي على ذلك، بيد أن تلك المتلازمة لم تعد خاصة بالدول الضعيفة والمفككة، بل بدأت تهدد دولاً لها تاريخ من الاستقرار النسبي في أفريقيا الوسطى مثل كينيا. إذا تطورت الأزمة في تشاد، فسنكون أمام صراع عرقي وديني في محيط الدول المجاورة، وهو سيناريو يزعج بالتأكيد الحسابات الأمنية والإقليمية ليس للاتحاد الأفريقي فقط، بل للعالم بأسره، ناهيك عن المعاناة الإنسانية الرهيبة التي تتهدد بالانفجار بصمت تماماً كما تمت المجازر الدموية لمليون راوندي، و 200ألف دارفوري. الذين كانوا يقرأون لفرانز فانون أواسط القرن الماضي لتحميل الاستعمار الأوروبي عذابات أفريقيا وأزماتها، عليهم أن يغيروا الكتاب اليوم، فلربما قرأوا - لمعاصره - ريموند لزلي بيل بدلاً عنه، فهو الذي حذر قبل تسعين عاماً من مشكلة التنافس العرقي بين الأفريقيين، كأبرز تهديد لمستقبل القارة.