نتذكر اليوم، بعد خمسين عاماً حافلة بالمتغيرات، مؤتمر باندونغ التاريخي عقد بين 18 و24 نيسان/ ابريل 1955 في باندونغ - اندونيسيا. وعلى رغم طابع الحنين في هذا التذكر، فإن هذين التذكر والحنين لا يرميان قطعاً الى التفكير باستعادة ذلك الحدث الكبير. فذلك أمر خارج سياق حركة التاريخ وضده في آن. غير أن روح باندونغ هي التي تجعلنا اليوم نتذكر الحدث باهتمام. فماذا نقصد بروح باندونغ؟ أول ما يتبادر الى الذهن هو تلك الحركة التي نشأت في أعقابه، حركة عدم الانحياز. وهي حركة لعبت أدواراً مهمة في فترة الحرب الباردة، التي طالت عقوداً من الزمن في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولم يقلل من ذلك الدور التنوع والتعدد الكبيران الى حدود التناقض في مواقع ومواقف أنظمة الحكم التي سادت في البلدان التي تشكلت منها الحركة. ذلك أن وزن دول الهند والصين وأندونيسيا ومصر ويوغسلافيا وبورما وسيلان سري لانكا كان بذاته حاسماً في جعل عدم الانحياز الى أي من المعسكرين العالميين الكبيرين المتناقضين المتصارعين، المعسكر الاشتراكي والمعسكر الامبريالي، يحمل طابع الحياد الايجابي، بمعنى الانحياز سياسياً، وليس ايديولوجياً، الى النضال من أجل السلم والدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. وهو كان، في الكثير من الحالات، انحيازاً ضد المعسكر الامبريالي، وتقاطعاً في ما يشبه التحالف الموضوعي مع المعسكر الآخر، المعسكر الاشتراكي. ولم يكن ممكناً لتلك الحركة، لا سيما في التاريخ الأول لنشوئها، إلا أن تكون في ذلك الموقع التاريخي، وإلا لكانت فقدت المعنى الذي اكتسبته، والمضمون الذي يجعلنا اليوم نتذكر تلك الحركة بحنين، ونقوّمها وفق الدور الذي لعبته، والموقع الذي احتلته، والآثار الطيبة التي خلفتها مواقفها العامة ازاء قضايا العصر، والقرارات التي تمكنت من فرضها في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الكثير من القضايا، لا سيما ما يتصل منها ببلدان العالم الثالث، ومنها بالأخص بلداننا العربية، وفلسطين على وجه التحديد. في السنوات العشر الأولى من قيام تلك الحركة، كنتاج مباشر لمؤتمر باندونغ ولقراراته، برزت أسماء كل من نهرو وشو إن لاي وسوكارنو وتيتو وعبدالناصر وني ون ونيدرانيكا. وهي كانت أسماء كبيرة في عالم السياسة في تلك الحقبة. لكن تصدعاً كبيراً بدأ يحدث في تلك الحركة وفي دورها، عندما بدأت تنهار بعض الركائز التي كانت استندت اليها في بدايات نشأتها. نتذكر في هذا السياق الخلل الذي أحدثه كل من النزاع الصيني - السوفياتي أساساً، والنزاع الصيني - الهندي، منذ أوائل الستينات، وغياب سوكارنو عن المسرح السياسي بعد سقوط اندونيسيا في قبضة العسكريين بفعل الانقلاب الدموي الذي وقع في النصف الثاني من الستينات، والتصدع الذي أصاب مشروع عبدالناصر، بعد انهيار الوحدة المصرية ? السورية في عام 1961 وهزيمة حزيران يونيو 1967. وهي أحداث كبيرة كانت تقع في الوقت الذي كانت حركة عدم الانحياز تواصل الاستمرار في شق طريقها بصعوبة، وتمارس تأثيرها في السياسة الدولية. وهو تأثير كان بدأ يتراجع تدريجاً بفعل المتغيرات العالمية المتتالية. إلا ان تلك السنوات العشر بالذات، بين عام 1955 و1965، كانت تشهد تحولاً كبيراً في القارة الافريقية على وجه الخصوص. إذ انتقلت معظم بلدان القارة السمراء والسوداء من السيطرة الاستعمارية المباشرة الى الاستقلال. وبرزت أسماء قادة كبار جدد مثل نكروما وبومدين وسيكوتوري وسنغور وتيريري وكينيا وموديبو كيتا. وترافق ذلك مع قيام ثورات اجتماعية شملت القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكانت حركة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية من أبرزها وأكثرها وضوحاً في الرؤية والهدف السياسيين. في حين عانت الحركات الثورية في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا الكثير من الاضطراب في الفكر وفي السياسة، على رغم جذرية الكثير منها. كما عانت تلك الحركات الكثير من الصراعات والانقسامات، لا سيما داخل تيارات اليسار الشيوعي والقومي. وكان بعض ذلك الاضطراب يعود الى الجدل الكبير المتشعب حول طرق التطور التي كان على بلدان القارتين أن تسلكها لتحقيق تقدمها بعد حصولها على استقلالها. ودخلت على خط ذلك الجدل بعض الموضوعات الايديولوجية التي صدرت عن مفكرين سوفيات تحت تأثير تلك المتغيرات التي نجمت عن مؤتمر باندونغ والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. أبرز تلك الموضوعات اثنتان: الموضوعة الأولى تتمثل في ما سمي بالتطور اللارأسمالي. فقد ركزت تلك الموضوعة على دور"الديموقراطيين الثوريين"الذين جاء بعضهم الى السلطة بانقلابات عسكرية، أو كانوا زعماء تاريخيين لبلدانهم في معركة الاستقلال، دورهم في عملية التغيير الكبرى في تلك البلدان. وكان ذلك التركيز على أولئك"الديموقراطيين الثوريين"يتم على حساب الحركة الشعبية الناهضة، وعلى حساب الأحزاب الشيوعية والقومية اليسارية، التي كانت تنمو وتحدد اتجاهات سيرها في الصواب والخطأ، في ظل القمع الذي مارسه بعض أولئك"الديموقراطيين الثوريين"في بلدانهم بنسب متفاوتة، ضد تلك الحركات الثورية، وضد شعوبهم، وذلك باسم وحدة المجتمع في مواجهة الاستعمار، وفي عملية التنمية، أو في مواجهة الأفكار والايديولوجيات المستوردة من الخارج! الموضوعة الثانية تتمثل في المبالغة بتقويم دور الجيوش في بلدان العالم الثالث، دورها في إحداث التغيير السياسي والاجتماعي، انطلاقاً من المبالغة في تقويم دور زعماء بعض الانقلابات العسكرية الثوريين المعادين للامبريالية والحاملين أفكاراً للتغيير الاقتصادي والاجتماعي بأسماء مختلفة، وبرامج للتنمية كان بعضها يحمل اسم التوجه الاشتراكي. وأثارت هاتان الموضوعتان الغريبتان جدلاً واسعاً في صفوف الحركة الوطنية الديموقراطية. وأحدثت انقسامات كبيرة بين أطرافها وداخل كل منها. وساهم في كل من هذه الصراعات والانقسامات النزاع الصيني ? السوفياتي حول الموقف من التعايش السلمي، وحول مفهوم كل من الجبارين الشيوعيين للعلاقة بين النضال من أجل السلم العالمي والنضال الوطني التحرري المعادي للامبريالية ولنظامها الرأسمالي. وإذ أتوقف عند هذه القضايا الصراعية التي رافقت حركة عدم الانحياز في المرحلة الثانية من تطورها، فلكي أشير الى أن هذه الحركة كانت بدأت تفقد زخمها، من دون أن تفقد كل دورها، لا سيما في المرحلة التي كان بدأ يفقد الاتحاد السوفياتي زخمه، ابتداء من النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. إذ بدأ عدم الانسجام في التركيب السياسي والاجتماعي لأنظمة الحكم في البلدان المنضوية في الحركة يمارس تأثيره السلبي في طابعها الايجابي، وصولاً الى المرحلة التي فقدت فيها الحركة الكثير من دورها كحركة عدم انحياز، وفقدت الكثير من تأثيرها السابق، وكان ذلك يترافق مع بداية التراجع السريع لدور الاتحاد السوفياتي، الذي انتهى بانهياره في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين. كما كان يترافق مع التراجع في دور الأممالمتحدة التاريخي، الذي من أجله أنشئت هذه المنظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذا التذكير ببعض الأحداث التي رافقت نشوء حركة عدم الانحياز وتطورها ضروري الآن، في هذا الوقت الذي نستعيد ذكرى مؤتمر باندونغ وروح باندونغ. ذلك اننا بحاجة، في زمن المتغيرات التي شهدها العالم في العقد الأخير من القرن العشرين، وفي زمن التحولات الكبرى التي يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، بالسلبي منها وبالإيجابي على حد سواء، اننا بحاجة الى أن نعيد صوغ المشاريع التي ترمي الى تغيير العالم، وذلك على أسس جديدة من المفاهيم والأفكار والبرامج والتحالفات والأهداف التي تأخذ في الاعتبار وتنطلق من تلك الثورات والتحولات كلها. وتبرز أهمية ما نشير اليه في كوننا نشهد في الوقت الراهن، في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، ملامح تغيرات كبرى لم تتوضح اتجاهاتها بعد. إلا أنها تغيرات تنهي حقبة ماضية بكاملها، وتفتح الباب أمام حقبة جديدة بالكامل. وهي مفارقة عجيبة. أكثر الاشارات تعبيراً عن هذه المتغيرات تأتي من العراق، على رغم الاحتلال الأميركي ? البريطاني الذي أسقط نظام صدام حسين، ومن فلسطين، على رغم وحشية العدوان الاسرائيلي، ومن المملكة العربية السعودية، ومن السودان، ومن مصر، ومن إيران، وحتى من أفغانستان. وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى ما يحدث في لبنان في هذه الأيام. فهو جديد وغني في نوعه، بل هو مختلف في صيغته عن كل ما أشرنا إليه من أمثلة. إذ ان التغيرات التي تبشر بها وتشير اليها أحداث لبنان الراهنة ستكون أقل كلفة من كل النواحي من أي تجربة أخرى. وليس غريباً أن يكثر الحديث وتكثر الاجتهادات في الاتجاهات المختلفة، في هذا الوقت بالذات، عن ظاهرة العولمة الرأسمالية، كما لو أنها ظاهرة جديدة. وهي في الواقع ظاهرة كانت تتكون بقوة، قبل أن ينهار الاتحاد السوفياتي بزمن. وتكثر التوصيفات لهذه العولمة، في الراهن من الزمن، وفي امتداده في المستقبل. وسيظل الباحثون في حاجة الى وقت غير قصير لكي يقدموا خلاصات أكثر وضوحاً وأكثر دقة حول طبيعة الحقبة التي يمر بها العالم، في ظل هذه العولمة الرأسمالية، وفي ظل جموح أبرز ممثليها، الولاياتالمتحدة الأميركية، في السعي الى التوسع والهيمنة، وفي ظل جموح المجموعات الكبرى من الشركات العابرة للقارات. إذ هي تستخدم آخر منجزات العلم والتكنولوجيا للاثراء بأبشع الوسائل وبأكثرها شراسة ووحشية، بما في ذلك بالجريمة المنظمة، ومنها الاتجار بالبشر كرقيق من نوع جديد، والاعتداء الفظ على مصالح الشعوب وعلى استغلال ثرواتها والتحكم بمصائرها، والانقضاض على المكاسب الاجتماعية التي كانت القوى العاملة حققتها في نضالاتها الشاقة عبر عقود طويلة من الزمن. وهي انجازات ساهم في تحقيقها وجود نظام اشتراكي عالمي كبير كان يحمل أفكاراً تبشر بمستقبل زاهر للبشرية، يسود فيه السلام وتسود فيه الحرية والرفاهية والعدالة الاجتماعية. لن يكون نموذج حركة عدم الانحياز القديم هو النموذج الصالح لقيام حركة معاصرة على أساس روح باندونغ. ولن يكون نموذج الدولة السوفياتية وأمميتها البروليتارية هما المطلوب استعادتهما من أجل اعادة إحياء المشروع الاشتراكي. لكن، لكل من روح باندونغ ولأفكار ثورة تشرين الأول اكتوبر دور مهم في إعادة صوغ حركة من نوع جديد، حركة متعددة القوى حتى التناقض، متحالفة في ما بينها، على رغم تناقضاتها، في مواجهة مهمة راهنة كبيرة بأهدافها الآنية والبعيدة المدى. وتتمثل هذه المهمة في الأساس، بكبح جماح قوى العولمة الرأسمالية الفالتة من عقالها في هجومها على الجنس البشري وعلى الطبيعة وبيئتها ومحيطها الخارجي، مستخدمة الانجازات العلمية المذهلة في تحقيق أهدافها المتوحشة هذه. هذه الحركة العالمية الجديدة المطلوب قيامها هي، بالتأكيد، حركة من نوع جديد في طبيعة تركيبها السياسي والاجتماعي، وفي طبيعة المهمات الموكل اليها تحقيقها. وهي، في تصوري لها، كتلة تاريخية عالمية جديدة، تتشكل من كتل تاريخية تنشأ في كل بلد، وظيفتها تحقيق الهدف الكبير المشار اليه، الرامي الى تغيير مجرى التطور في العالم المعاصر في اتجاه أكثر اتساقاً، وأكثر عدلاً وحرية، وأكثر احتراماً لخيارات المجموعات البشرية، وأكثر حفاظاً على الكوكب وعلى محيطه الخارجي. وسيكون من الخطأ الفادح الوقوع في وهمين: الوهم الأول هو الذي يتصور أن في إمكان هذا التحالف الواسع، في نطاق هذه الكتلة التاريخية الكبيرة الموجهة ضد وحشية الرأسمال المعولم وعتاته، تغيير طبيعة القوى المشاركة في التحالف، في أي من الاتجاهين، تحويل الرأسماليين الى دعاة عدالة اجتماعية تقربهم من القوى العاملة، أو تحويل العمال الى أجراء طيبين في خدمة الرأسماليين! الوهم الثاني هو الذي يعتبر أن في إمكان هذا التحالف أن يحقق في مدى زمني قصير أهدافه بإخضاع الرأسمال المعولم المتوحش الى رأسمال عاقل منزوع الأنياب! وإذ نشير الى هذين النوعين من الأوهام في سياق تكوُّن هذه الحركة العالمية المنشودة، فلأننا نرى أن الحركة الراهنة المناهضة للعولمة قد بدأت تفقد زخمها، بفعل الأوهام التي رافقت قيامها وبعض الأساليب الفوضوية التي رافقت بعض نشاطاتها، والآلية التي تحكم عملها وتوجهاتها، بالمفرد وبالجمع. إلا أن تجربة هذه الحركة هي مهمة في التأسيس للحركة الجديدة المتصلة أهدافها بالمرحلة المقبلة. والتذكير اليوم بروح باندونغ، والحديث عن إعادة صوغ مشاريع التغيير الكبرى التي ارتبطت باسم الاشتراكية، كلاهما يشير الى ضرورة الانخراط في إقامة تلك الحركة من النوع الجديد. وهي مهمة تاريخية تحتاج الى وقت والى عقل والى واقعية. ولا يجوز في مثل هذه العمليات التاريخية حرق المراحل، ولا يجوز القفز فوق الشروط الموضوعية والذاتية. والقضية، كما نراها، هي قضية عامة. والمعنيون بها هم كل القوى المتضررة من الواقع العالمي الراهن، ومن بعض اداراته الداخلية في كل بلد. وهو واقع مهما اختلفت الأوصاف المعبرة عنه، تظل، في كل الأحوال، تشير الى أنه واقع ظالم في كل المستويات، وفي كل الاتجاهات، وأن مهمة التصدي لتغييره في الاتجاه الصحيح هي مهمة المستقبل، مهمة كل الأجيال. كاتب لبناني.