"إزيدورا والأتوبيس وقصص أخرى"هو عنوان آخر مجموعة قصص قصيرة للكاتب محمد سلماوي، وقد اختارها من ست مجموعات سابقة، صدر أولها عام 1983، أما قصتا"البقية في الأسبوع القادم"، و"جهاد المسحراتي"، فهما جديدتان. جمع عنوان المجموعة بين القديم، بقصة"إزيدورا وحابي"، والمعاصر بقصة الحافلة"الأتوبيس". وبين القديم والمعاصر رحلة قطعتها شخصيات قصصه، في أزمان مختلفة، وبين أمكنة عديدة. ويمكن أن نضيف إلى هذه الرحلة رحلة أخرى أنجزها الكاتب متنقلاً بين أساليب سردية متنوعة، استخدمها على مرّ تاريخه الإبداعي، بدءاً بأسلوب قصّّ يقترب من أسلوب المقال الصحافي، إلى أسلوب حواري، يشبه طرائق الكتابة المسرحية كما في قصته"إزيدورا وحابي"، ومن أسلوب تسجيلي كما جاء في سردياته الثلاثة عن شهداء الثورة الفلسطينية، إلى أسلوب يشبه أسلوب كتابة الرسائل في قصته"رسائل العودة". وقد نجح سلماوي في توظيف عديد هذه الأساليب في قصصه إلى حدّ كبير، وذلك في ضوء انتباهه إلى الملاءمة الأسلوبية. على مستوى الموضوع، اعتمدت القصة الأولى في المجموعة"إزيدورا وحابي"التاريخ المصري القديم، وهناك قصص مسّت موضوعات معاصرة مثل قصتيه"برج السرطان"، و"باب التوفيق"، وقصص أخرى أقامت تناصاً مع أحداث وطنية قائمة، كما في"وفاء إدريس"، و"محمد الدرة"، و"جهاد المسحراتي"، وهي شخصيات عبرت عن موقعها الأيديولوجي من خلال طريقتها في رؤية العالم، وسلوكها فيه، ومنها ما أفصح فيها الكاتب عن موقفٍ فنيّ مثل قصته"العرض الأخير"، ومنها ما أوضح فيها الكاتب موقفاً أخلاقيّاً من قضايا بأعينها مثل قصته"الفواخير". ونقرأ في قصص المجموعة عن أناس مرّوا في حياة الكاتب، فكرّمهم بالكتابة عنهم، كما كرّموه بما تركوه في نفسه من أثر طيب، مثل قصته عن"رحيل جواد أشهب: مرثية فنان تشكيلي". في قصص المجموعة أبطال نعرفهم بصفاتهم فحسب، فقد كان سلماوي دقيقاً، سواء في اختيار أسماء أبطاله، أو في حجبها. في قصة"البقية في الأسبوع القادم"، أسقط الكاتب اسم بطل القصة، وهي قصة تشير إلى فساد وزاري، ففتح غياب اسم البطل، باب التأويل. وعلى رغم الشك الذي تشي به معلومات القصة حول فساد بطلها، فإن موته التراجيدي غريقاً، في حمام السباحة، كان قد سبقه غرق رمزي آخر، يشير إلى عقاب بدا وشيكاً مستحقاً وفق طريقة السرد. في قصص أخرى، يختار الكاتب أسماء شخصياته بعناية، مثل قصة"باب التوفيق"التي اختار الكاتب لبطلها اسم"محسن عبد الفتاح"، وكان اسم محسن كافياً، لكن دلالة اسم الأب لها ارتباط بالأحداث. فالبطل محسن في هذه القصة اسمٌ على مسمى، لكن حظه سيئ، وقد فتح له حصوله على بابٍ أثري اسمه"باب التوفيق"، نتيجة إحسانه، نافذة حظ، سرعان ما أغلقت ثانية، حين خرج من الباب، غير منتبه إلى تحذير صاحبه من أن الخروج من الباب شؤم. وفي قصة"برج السرطان"، وبطلته بائعة هوى، وُلِدت في أسرة طيبة، حاول البطل وهو طبيب جراح، مساعدتها، وفشل. كان اسمها"محاسن"، ولاسمها دلالة في سياق السرد، وفي قصة"الفواخير"كان اسم بطلها العم صالح، وهو صالح. وهكذا، يمكن أن يكتشف القارئ في اسم البطل حضوراً، وغياباً، علاقة بأحداث كل قصة في المجموعة. ربما كانت قصة"عشرة طاولة"هي أهمّ قصص الكتاب، وأكثرها دلالة على المجموعة كلها، وهي قصة وظّف فيها سلماوي المفارقة على نحو جميل. فبطل هذه القصة لا اسم له، ذلك لأن اسمه المجهول يمكن أن يكون اسم أي واحدٍ من آلاف النازحين إلى القاهرة، أولئك الذين لا يجدون الألفة، وما يجمعهم بالناس، أو ما يشعرهم بوجود آخرين في حياتهم، بل إن زحمة حافلة في وقت الذروة، وأنفاس أناس لا يعرفونهم، وتلامسهم، هي ما يعوضهم أحياناً عن هذا الشعور القاسي بالوحدة. أما من أحبها بطل هذه القصة فاسمها"سلوى"، وكانت علاقته بها سيئة، مثل علاقته باسمها. هكذا خلق سلماوي بنية تواز لافتة بين دلالة الاسم، ووضع البطل المأسوي في العاصمة. فالمسمى والاسم، مثل المحسوس في حياته والمجرد، كلاهما مرير. في يوم قارص من أيام الشتاء، خرج بطل"عشرة طاولة"من بيته، على غير هدى، هارباً من وحدته، حتى وصل إلى مقهى الحاج سلطان، وفي ركن ناء، لمح شاباً يجلس وحده، وقد وضع أمامه طاولة مفتوحة، فذهب إليه، وجلس أمامه، ثم مدّ يده من دون أن يكلمه، وبدأ اللعب، وحين اشتدت حماستهما، ترك رواد المقهى أماكنهم وتحلقوا حولهما. لم يتبق لبطل القصة في هذه اللحظة سوى هذا"القشاط"الأبيض، وفي نشوة انهماكه نسي البرد والوحدة، بل ازدادت ثقته بنفسه. أما الشاب الجالس أمامه فنظر إليه باستسلام، بعد أن كسب العشرة. لقد خفف عنه حس الانتصار شعوره في الواقع بالهزيمة، ففوزه ولو كان في لعبة طاولة، مع آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكلمه قطّ، خلق له تواصلاً، وإحساساً عميقاً بالدفء، والاطمئنان إلى الحياة، على رغم الحاجة. حياة الإنسان جميلة بانتصاره حيناً على آخرين، فقد تأتي السلوى من الفوز، ولو كان فوزاً في لعبة، مع غرباء، أو بين محبين. هيمن على قصص هذه المجموعة حسّ إنساني شامل رواه من خلال شخصياته، راوٍ عليم، عبر الكشف عما فرضته الحياة عليهم من غربة، واغتراب، سواء على مستوى سلوكهم، أو شعورهم بأنفسهم، وبالآخرين. فإن كان انتصار الغريب تواصلاً وسلوى، فهل حُمق المحبين حكمة، كما أشار الكاتب في"رسائل العودة"، وفي قصص تستحق القراءة عن الغربة والحنين؟