يتجه مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس الراحل الذي ألمّت به التداعيات وأودت به مؤخراً. انه مشهد فريد من نوعه، من حيث التوقيت والطبيعة وتحديد الحل. تذكرني هذه الحادثة، بما جرى في مرحلة المفاوضات لتشكيل الحكومة والرئاستين الحاليتين حيث تفجرت هذه المعضلة بصورة حادة، ما أدى الى امتناع"القائمة العراقية الوطنية"عن المساهمة في التصويت في مجلس النواب بسبب الإصرار على توزيع المقاعد الأساسية طائفياً ورفض أي تكييف أو تغير في أسماء المرشحين من الكتل الفائزة... وكانت"القائمة العراقية الوطنية"تقدمت بترشيح الدكتور أياد علاوي لتولي منصب نائب الرئيس الاتحادي بعد ان تبين ان الكتل الفائزة قد استوعبت"استحقاقاتها"في تسلم المناصب الرئيسة ولم يعد هناك ما يثير الغضب أو التردد لدى الطوائف الأخرى. إلا ان البعض اعتبر هذا خياراً غير مقبول وتمسك بموقفه الرافض أي تعديل في اللوحة الطائفية للرئاسات. والواقع ان الصورة تتكرر اليوم من جانب إطراف سياسية عدة ممن تتحدث بلغة مزدوجة بين رفض الطائفية كمنهج لبناء الدولة والتمسك بها كصيغة للحكم وبناء المؤسسات الأساسية الحاكمة. هذه هي خلفية الصراع المحتدم الدائر اليوم حول إشغال المركز الشاغر لرئيس مجلس النواب. فمهما قيل ويقال عن إمكان تجاوز الصيغة الطائفية من جانب بعض الجهات الحاكمة أو العاملة في الحياة السياسية العامة، فهي في الحقيقة ليست سوى خطابات قاصرة لا تعبّر عن الموقف العملي الملزم بها. لقد مرت البلاد بتجارب مرة للغاية، ودفعت أثماناً كبيرة وباهظة من البشر والموارد المادية والخدمية، خلال السنوات الست السابقة تقريباً بفعل التشبث الأعمى بنظام المحاصصة الطائفية في بناء الدولة والمؤسسات العامة. ولا يمكن اليوم أي مسؤول أو قائد ان يتحدث عن مخرج حقيقي لأزمة الحكم ما لم يبدأ بالتحرر كليا من عدوى الطائفية ونظرية المكونات التي ألحقت بالمجتمع وحاضر الدولة ومستقبلها أضراراً كبيرة. واليوم، هناك من يعترض على رغبتي في الترشح الى المقعد الشاغر هذا للأسباب ذاتها. إذ يرى ان هذا المقعد هو من الحصة الطائفية لتنظيم سياسي سنّي باعتبار ان الرئيس السابق كان سنياً وعضواً في ذلك التنظيم، وهكذا جرت التوافقات الطائفية بين الفائزين في الانتخابات السابقة. والواقع ان هذه الحجة ليست مقنعة أبداً. فهي يمكن ان تكون ذات أهمية بالنسبة الى الكتل الفائزة الأخرى لأنها كانت الجهات المعنية باتفاق من هذا القبيل. الا ان المبدأ، في الحياة الدستورية، هو توفير حق كامل لأي عضو نيابي بممارسة هذا الخيار من غير تضييق أو إحراج. وهذا ما أتينا على شرحه في بداية هذه الكلمة. ولعل هذه المسألة تحتاج الى مزيد من الشرح والتوضيح للرأي العام. فالدستور يكفل هذا الحق بوضوح، كما ان بعض الأطراف باتت تعترف به وتدعو اليه. إذاً، فأي إخلال أو تعثر في مواصلة المعادلة الطائفية في بناء الدولة لا بد من أن يكون سبباً جوهرياً للعمل على تعديلها وتمكين اللعبة الديموقراطية من أن تستقر على قواعدها الطبيعية الكائنة بحق كل إنسان في ممارسة حق الترشح والترشيح في المؤسسات الديموقراطية. هذه هي خلاصة التطور السياسي الذي حصل في العراق منذ تغيير الحكم في نيسان أبريل 2003. ولا يمكن ان نشيح النظر عن هذه النتيجة الإيجابية، بل يستدعي الوضع العام في البلاد، ان تسقط كل الحجج والأسباب الواهية التي سمحت بتشكيل هيئات ومؤسسات قاصرة سواء في قطاع الأمن والدفاع ومراكز الحكم الأخرى والتي أدت الى تقسيم المجتمع الى فئات متناحرة نسبياً وأوجدت حالاً من عدم الانسجام على صعيد الدولة وتسببت بموجات متتالية من القتل والتهجير والإرهاب. ان ترشيحي لهذا المقعد هو جزء من استحقاقات المواطنة العراقية التي لا تفرق بين طائفة وأخرى وتدعو لبناء دولة موحدة وذات هوية وطنية واحدة. وهي مهمة كبيرة ينبغي ان توضع في رأس الأهداف الوطنية التي يسعى المواطنون الى تحقيقها بعد العذابات والمحن التي حلت بالبلاد لسنوات عدة. وهي أيضاً حاجة طبيعية وملحّة لإعادة الاعتبار الى الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي بين أبناء الوطن من كل الطوائف والقوميات، ولإرساء قاعدة صلدة للكيان السياسي المشترك الذي يسعى الجميع الى تأسيسه رمزاً للإخاء والتعاون البنّاء بين أفراده. ولا يمكن الطائفية بكل أنواعها ان تزدهر وتستمر في ظل السياقات الوطنية التي توفر مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين وتجعل منها القاسم المشترك الذي ترسو عليه علاقاتهم ومدى تمتعهم باستحقاقات المواطنة وحقوق الإنسان. والواقع اننا كنا حريصين كل الحرص ولا نزال على ترجمة هذه المفاهيم الى الحياة العملية وجعلها نبراساً لكل من يسهر على حماية الوحدة الوطنية وبناء الدولة على أسس سليمة. * عضو في مجلس النواب العراقي.