"الزمن في غزة شيء آخر"، قال محمود درويش،"لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة". والزمن في الضفة التوأم شيء آخر، زمن لا قمر ولا بشر، الوجوه التي يعلوها الغبار، متعبة، محبطة، مستسلمة لليلها الطويل وللبرد الذي يأتيها عبر نصفها الآخر! الزمن في الضفة أسيرٌ لعقارب ساعة توقفت في غزة. البشر في الضفة ضحايا لطائرات"أف 16"، أباتشي وطيارات بلا طيار، ضحايا لقذائف مدفعية، واجتياح بري لا يرونه، ولكنهم يشعرون به. البشر في الضفة يشعرون بما يشعر به المؤمن بالله، مؤمنون به من دون أن يروه، فهم يصدقون ربع ما يسمعون ونصف ما يرون، وكل ما يشعرون به. البشر في الضفة بحر من رعية مطيع، يأتمرون بما تريده الريح، والريح اليوم مرتبكة، تنطلق من كل مكان ولا مكان، متجهة الى كل مكان ولا مكان، وبحر الرعية يتبعها ويشعر بالإنهاك، ثم اللامبالاة. وأنا الغزية التي تحمل جزءاً من كل توأم، لي زمني الخاص، وبوصلتي غريبة التركيب تشير الى مكانين وزمانين في الوقت نفسه! العام 2008 كان من الأعوام السيئة جداً، لذا فنهاية من هذا العيار الثقيل - القتل الجماعي في غزة - نهاية طبيعية، فالغزية السجينة في مدينة رام الله منذ العام 2001، تضحك على نفسها كل عام - تماماً كما بقية البشر في هذه البلاد التَعسة وتمني نفسها بعام أفضل، وبباقات ورد وعلب شوكولاتة! في استقبال العام 2002، خرجت وأختي وبعض الأصدقاء الى دوار المنارة، حملنا شموعنا وأضأناها لكل من مضى، ومن سيمضي بعد حين! استقبال عام 2002 كان شخصياً جداً، فعمتي في غزة كانت قد فقدت ابنها الثاني على يد الاحتلال. لم يكن في استطاعتي وأختي أن نكون هناك لنشاركها دموعها وصبرها، فقررنا الصمت أيضاً على ضوء شمعة! العام 2002، لم تستجب السماء ضوء شمعتي التي أضأتها، وجاء اجتياح رام الله، بل الضفة الغربية. انقلبت الدنيا من حولنا، ولكن في ذلك الوقت، خرجت وأختي والكثير من الأصدقاء رافضين الصمت والاكتفاء بإضاءة شمعة، رفعنا صوتنا ويافطاتنا، حملتنا أقدامنا لمواجهة دبابات الاحتلال التي تحتل أرضنا وتمنع عنا الهواء. العام 2002، عام غريب، شحذت همتي وطاقتي أن لا للاحتلال ولا للسكون. اليوم لا يشبه الأمس، و2008 لا يشبه 2002، فماذا تغير؟ قلبي الغزي هو القلب نفسه، وروحي"الضفية"هي الروح نفسها، إذاً ما الذي انكسر؟ خرجت الى الشارع مع بقية من خرج في اليوم الأول والثاني و... و... في اليوم العاشر قررت عدم الخروج! هل توقف قلبي عن النبض لغزة، هل توقفت روحي عن الألم لما يحدث في الضفة؟ ما الذي انكسر؟ نعم انهزمت في غفلة مني، انهزمت بالتدريج. روحي الضفية المتعالية كما جبال الضفة لم تنتبه الى أن الإسرائيلي المحتل نجح في تدمير صخوري الجبلية، التعود والقبول بالواقع والتعايش مع فتات، عبر تصريح ليوم واحد، أو قبول تنسيق للجسر من أجل سفر مرة بعد رفض عشر مرات، القبول بسجن رام الله حطم تلك الروح التي لا تقبل أن تنحني لأحد... هزم الاحتلال الإسرائيلي نصفي الضفي! نعم انهزم قلبي الغزي، هذا القلب المتدفق والمتجدد كما بحر غزة، انتبه منذ وقت الى أن الاحتلال مرة أخرى يستنزفه، يجفف ماءه، اللوعة لرؤية الأهل والأصدقاء لم يشفها يومان زيارة قبل ثلاثة أعوام جاءت بعد ستة أعوام من الغياب، ماء قلبي تجمد مع كل محاولة فاشلة لثلاثة أعوام لإخراج والديّ المسنّين للعلاج، لم أنتبه كثيراً الى أنني كنت أفقد جزءاً من عنفواني وطاقتي ببطء شديد. قلبي وعمري ينفلتان من يدي كما الهواء. أشعر بالهرم الشديد، وأشعر بالسجن يصغر ويطبق على أنفاسي، فكيف لي أن أخرج في اليوم العاشر لأتضامن مع ذاتي؟ السجناء لا أفق لديهم، فجدران سجونهم تسدّ عنهم الشمس والرؤية، السجناء لا كاميرات تصورهم كي يبصقوا في وجهها! السجناء لا يفاوضون ولا يقاومون... فقط يصمدون! فحين يكون قلبي هدفاً مباحاً لآلات القتل الإسرائيلية، وروحي سجينة وهدفاً مؤجلاً لآلات القتل نفسها، لا يبقى لي شيء إلا ما تفعل غزة كل يوم"إعلان جدارتها بالحياة". وفاء عبدالرحمن - غزة - رام الله - بريد إلكتروني