كان شباط فبراير 2001 أحد الشهور الأسوأ في حياتي. فبعد انتهاء دراستي وقفت أمام خيارين: فإما العودة الى الوطن أو البقاء حيث أنا. والوطن الذي أتحدث عنه هنا هو وطنان علي الاختيار بينهما هما جزءا الوطن المقطوعان. فأنا الفتاة الغزية التي عشقت غزة ببحرها وسهلها، بأهلها وحيواناتها، بشوارعها المرصوفة والترابية، بمخيماتها التعسة ومدنها التي تزداد بشاعة في محاولتها مطاولة السماء. كان علي أن أختار العودة الى القطعة السجن الأكثر بؤساً على وجه الأرض غزة، أو الذهاب الى سجن آخر ولكنه أوسع قليلاً الضفة الغربية. قرار العودة أو البقاء حسم سريعاً، فلي حق عودة لا تتمتع به غالبية أبناء هذا الوطن وبناته، والتنازل عنه هو تنازل عن هويتي التي لو لم تخترني لاخترتها. وقررت العودة الموقتة الى السجن الأكبر، على أن محطتي الأخيرة ستبقى دائماً السجن الأصغر المسمى غزة. عدت الى الوطن، محبة ومشتاقة. رام الله لم تكن في انتظاري. فقد بعدت عنها في السنوات الأخيرة، واحتفظت بغزة وطناً وملجأ. معالم المدينة تبدو كما هي، ولكن الحواجز ازدادت، وجوه الناس تغيرت. اعتقدت ان هذا بسبب تعودي على الوجوه الباردة. استقبلتني المدينة في شكل عادي. اصدقائي واخواتي فتحوا أذرعتهم لي، ولكن ذراعي أمي لم تكونا هناك. صوت أبي - الذي شجعني في شدة على العودة الى رام الله - جاءني عبر الهاتف غير مصدق انني لم أذهب الى غزة: "تمنيت لو أنك لم تسمعي كلامي!". ليلتي الأولى كانت باردة ومملوءة بقصص القصف وطائرات ال"اف 16"، والتظاهرات اليومية، مسيرات الشموع، المؤتمرات الصحافية وورشات العمل، وسؤال ملح: "لماذا عدت؟". أيامي اللاحقة كانت محاولات لفهم ما يدور، كنت سعيدة بعودتي. أنا الآن أعرف ما يدور، أنا الآن جزء من الحدث، شاهدة عليه. لم أعد المتفرجة المنفطرة القلب التي تبكي مع سقوط شهيد أو هدم بيت أو اقتلاع شجرة. مرت الأيام غريبة، بين متابعة لاهثة لمجريات الأمور وبين محاولات التوفيق بين أصدقائي المتوترين، وجميعهم يتحدثون عن الطلاق. منهم من يريد تطليق حزبه أو عمله. بعضهم يريد تطليق زوجه. وبعضهم يريد تطليق الحياة. "لماذا عدت؟" حرت فيما اذا كان قرار العودة هو أفضل قرار اتخذته. لا تزال تذكرة العودة في جيبي. ولكن تذكرة الرغبة في العودة ضاعت منذ وطأت ارض الوطن. والبقاء هنا لا يولد إلا الكره للحياة. وجدت هروبي في قضاء الوقت مع طفل اختي الصغير، فيصل، باعثاً للحياة والأمل. ابتعدت عن أي فرصة للدخول في الحياة العامة. أردت شحنة رغبة في العمل والتحدي قبل أن أخوض معركة الوطن مهزومة. وفيصل كان فيصلي. نعم أريد البقاء والعمل. نعم انني أختار هذا الوطن بإرادتي وبكل محبة ورغبة في الحياة له ولي! خرجت للعمل في المدينة التي غادرتها من سنوات. وكلما عملت أكثر كلما وجدت أن رصيدي القديم لا يزال هناك. الناس في حاجة الى إنعاش الذاكرة، ولكنهم لا ينسون. عدت للعمل العام، الذي لم يكن مفروشاً بالورد كما تخيلت. الطريق الى العمل كان يعني عبور حاجز اسرائيلي بغيض يومياً. الجنود ينكلون بنا، وشحنات غضبي تزداد، وكرهي لهم يصل ذروته. كيف سنخرجهم مرة واحدة والى الأبد؟ أصل الى العمل وأنا في حاجة الى ساعات أخرى التقط بها أنفاسي. وقبل أن يحين موعد العودة الى البيت، علي أن أحضر نفسي لتنكيل آخر. أصل البيت منهكة ولا رغبة لدي في شيء سوى رؤية فيصل، فهو الذي يهوِّن الأمر علي. كان فيصل ابتسامتي التي أتقوى بها على حواجز الاحتلال. ولكن طفولته الواعدة لم تجب الأسئلة المعلقة عن المفاوضات والانتفاضة والمقاومة والخلل الاداري في مؤسسات السلطة. ابتسامته لم تساعدني على فهم سبب تجاوزنا، نحن الشعب الذي تحول الى جمهور لا يفعل. نتفرج على كل ما يجري. لا نستشار ولا نطالب. المطالبات متفرقة ومشتتة لا تخلق حالاً جماعية أو مجتمعية. والعمل في هذه البلاد في حاجة الى طاقة مضاعفة لمعركتين لا تنفصلان، مقاومة الاحتلال وانهائه من جهة، ومعركة بناء الوطن الذي زينه لنا محمود درويش بقصائده من جهة أخرى. المعركتان في حاجة الى نفس طويل ونحن أنهكنا التعب. والاحتلال لم يعد واقفاً على الحواجز ومداخل المدن، بدأ يزحف داخلها. لم يعد يكتفي بالقصف الليلي والنهاري. فهو يغتال في وسط النهار ووسط المدينة، عربات تحمل مواطنين عاديين، فإلى أين المفر؟ لا مكان آمناً، العربة التي نركبها، البيت الذي نقطنه، مكان العمل، الشارع الذي نسير فيه، الدكان، المدرسة... لا شيء آمناً، وجميعنا مشاريع شهادة أحياناً كثيرة بالصدفة البحتة. هكذا كان الوضع. كل يوم نقول انه لن يصبح أسوأ مما كان، وكل يوم يثبت الاحتلال ان الأسوأ لم يأت بعد. الموت يأتي من كل مكان، والاحباط واليأس يرفرفان في السماء، والقيادة الفلسطينية تشجب وتستنكر وتناشد. العرب يفعلون المثل. وأميركا التي أصبحت تحكم العالم من دون تفويض رسمي لم تكن في حاجة الى هذا التفويض الذي جاءها على طبق من ألماس يوم 11 أيلول سبتمبر. لا أدري ان كان هذا يوماً مشؤوماً أم ماذا؟ الطريف في هذا اليوم انه يصادف عيد ميلاد أربع من صديقاتي. قررت العودة مبكرة للاستعداد للاحتفال بإحداهن فنحن نبحث عن أي مناسبة نحتفل بها لنشعر اننا أحياء. في طريق العودة اتصل زوج اختي وقال: "عملية انتحارية في نيويورك". اعتقدتها مزحة وضحكت. وبدا صوته جاداً مع رنة فرح: "ليست دعابة ولا مزحة، أحدهم انتحر مفجراً برج التجارة العالمي". اتفقنا على اللقاء في بيت صديقتي، تجمعنا كلنا هناك. لا وقت للاحتفال بها. مشاعرنا غريبة وسعيدة. لم نكن عرباً كلنا، ان هناك بعض الأصدقاء الأجانب الذين رقصوا فرحاً. الانفجارات تزداد، البرج الثاني ضرب أمام أعيننا جميعاً. طائرة ثالثة تصل البنتاغون، البيت الأبيض يُخلى. المفارقات غريبة. نحن أيضاً نخلي بيوتنا الى بئر السلم تقريباً كل ليلة. ترى، كيف شعر ساكنو البيت الأبيض؟ هل تذكرونا هنا في فلسطين؟ احتفلنا بعيد الميلاد وعدنا الى البيوت مع توالي الأخبار عن اعداد القتلى. شعرنا بالأسى، نحن الذين نعرف طعم الموت ومرارته جيداً لم نتمنه يوماً لأحد. نعم، سعدنا بعرش أميركا المتحيزة يهتز، ولكن لم نسعد يوماً لمناظر القتل والدمار. وبدأت صفحة جديدة في تاريخ البشرية. لم تعد المأساة الفلسطينية هي مأساة الوطن المحتل. امتدت الى كل ما هو عربي ومسلم في كل بقاع الأرض. الأنظار مركزة على أميركا وبعدها أفغانستان. ونحن، هنا، أرضاً وشعباً نداس كل يوم، ولا من مجيب ولا من سائل. حتى نحن الفلسطينيين انشغلنا بجدل أفغانستان ونسينا أنفسنا. مجموعات الحماية الشعبية الدولية كانت في طريقها الينا. كنت ممن يحضرون البرامج لهذه الحملة. ودائماً دعوت الى أن يختلطوا بالناس أكثر. علينا أن نشركهم معنا في تحدينا الألم، وحبنا الحياة. اقترحت أن نقوم باحتفال كبير للعام الجديد يشاركون به. كنت سعيدة بالعمل معهم، وبرؤية هؤلاء يأتون من بلاد كثيرة لا شيء في رؤوسهم الا مشاركتنا الصمود. ثم ترتيب احتفال صغير في مدرسة الفرندز، مع بعض عروض لفرق محلية. الاستعدادات لحفلة أصدقائي الخاصة كانت تجرى على قدم وساق. ولكن الرياح لا تأتي كما تشتهي السفن. فالأخبار تتناقل اسم شهيد أعرفه جيداً. انه ابن عمتي، شاب صغير قتل في طريقه الى تنفيذ عملية داخل مستوطنة في القطاع. انه الابن الثاني الذي يسقط للعمة نفسها في عام. الصدمة كانت كبيرة. نحن هنا اختان بعيدتان عن بقية العائلة. اختنا الثالثة تسكن المدينة نفسها، ولكن في المنطقة المحتلة منها. بكينا وحدنا عبر الهاتف مع العائلة. البكاء المشترك مع مجموع يخفف ملوحة الدموع. نحن هنا نبكي في واد وبقية العائلة في واد آخر. الأصدقاء يتصلون. هل نحن على الموعد؟ والرد كان نعم. اتصلت بلجنة التحضير للحملة الشعبية لتكون هناك دعوة لاضاءة الشموع والاحتفال في وسط ميدان المنارة. أحد أصدقائي، وهو يعمل في مجال الإعلام، حضَّر اعلاناً جميلاً وُزع على المحطات المحلية للدعوة الى الاحتفال الكبير بالعام. ذهبت واختي الى المنارة. اعداد الناس فاقت التصور. الألعاب النارية والغناء والشباب الذين يضربون الأرض بأرجلهم، كانوا مع كل دقة يؤكدون لأنفسهم وللعالم اننا هنا باقون. اشتريت وأختي مجموعة شموع لنضيئها لكل من احببنا وسقط من أجل هذا الوطن. شمعة لكل منهم. أضأناها مع دقات الساعة التي أعلنت انتهاء عام 2001، وولادة العام الجديد. احتضنت اختي وبكيت في شدة. بكيت كما لم أبك من قبل. شعرت بالراحة. فهذه السنة الأولى في حياتي التي استقبلها بالدموع. قلت: علَّ الدموع تمسح ألم السنوات السابقة! وتمنيت عاماً جديداً مملوءاً بقطع الشوكولاتة والورود، فعامي السابق كان حافلاً بقطع الحجارة والشوك. عدنا الى البيت، واستقبلنا اصدقاءنا. رقصنا وغنينا. وأمنية حلوة بعام جديد من السلام والخير لنا وللوطن ظلت معلقة في السماء، لا ندري ان فتحت أبواب السماء لها أم لا؟ الدبابات تحيط برام الله منذ زمن طويل، تقتحم وتحتل اجزاء منها، من وقت الى آخر. تحتل بيوتنا، وتبقي مركز المدينة محرراً. تحتل الإرسال، وتترك وسط المدينة وأطرافها الأخرى محررة. وهكذا. ونحن الذين لحسن الحظ أو سوئه نسكن وسط المدينة المحرر، كنا نحاول أن نملأ المساحة "السجن" التي تركت لنا. نذهب الى العمل صباحاً ونعود مساء أكثر اصراراً على الحياة. نتجمع كل مساء في مقهى مدعين اننا نتحدى ارادة القتل لدى المحتل بإرادة الحياة لدينا. كنا نتجادل ان كان هذا الفعل يعني تأقلماً مع العيش الطبيعي في وضع غير طبيعي. الجدل الدائم على موائدنا نحن الجيل الشاب كان حول سلبية أو إيجابية هذا الفعل. بعضنا اعتبره تحدياً للاحتلال وصموداً في معركة طويلة لا نريد أن نستنفد في جولتها الأولى كل قوانا. وبعضها الآخر اعتبر ان القبول والتصرف بعادية هو تأقلم مع احتلال قد يمتد العمر كله، وهذا سيستنفد ارادة المقاومة التي يجب أن نبلورها. وتساءلوا أكثر عن الذين يسكنون المناطق التي تحتل دائماً؟ ماذا يفعلون وكيف يفكرون؟ ونحن ماذا فعلنا لأجلهم؟ هل ممارستنا الحياة "الطبيعية" تخرج الاحتلال من مناطقهم؟ هل تعينهم على الصمود؟ وماذا لو قرر الاحتلال استكمال اجتياح كل المدينة؟ ما هي الاستعدادات التي قمنا بها لمنعه؟ تزداد فظاعة الاحتلال، وردود الفعل الفلسطينية تزداد تخبطاً. وتزداد وتيرة العمليات داخل الخط الأخضر. ويضاف جدل آخر على الموائد الصامدة. كيف نرى العمليات في الداخل؟ هل يجب منعها أم انها واحدة من وسائل المقاومة؟ ماذا عن العمليات ضد الجنود والمستوطنين؟ وكعادة الفلسطينيين، الجدل استمر من دون اتفاق كامل. اتفقنا على أن العمليات ضد الجنود والمستوطنين مشروعة ومطلوبة كي يخرجوا من أرضنا ومن دمنا. واتفقنا أن لا أحد يملك حق تجريم أي شاب أو شابة ممن يفجرون انفسهم قرباناً لحياتنا وحياة فلسطيننا. المقاربة الأجمل في هذا النقاش كانت حول فكرة القربان. ففي مصر الفرعونية مثلاً كانت تقدم فتاة للنيل الهائج. لم يكن من حق هذه الفتاة أن تعترض. كانت ترغم ويتم اختيارها. أما في الحال الفلسطينية، فالفتاة / الشاب، هو/ هي يتقدم، ويصر على أن يكون هو هذا القربان. ونحن، بغض النظر عن موقفنا من العمليات أو من الاستشهاد بهذه الطريقة، علينا أن نحبهم ونقدر لهم هذا الفداء. ان اردنا أن نلوم فاللوم هو للقيادة السياسية التي أرسلتهم؟ وما بين جدل وجدل، كنت كما الباقين، أعمل في وظيفتي. وأسعد بانتصارات صغيرة أسجلها في الحديث على الانترنت مع أجانب. لا يعرفون عنا الا ما تنقله وسائل الاعلام المتحيزة الى اسرائيل. كنت، كما كثيرين، أخوض معركة فضائية ضد اسرائيل صهيوني، أسجل انتصاراً هنا وآخر هناك. مع كل انتصار كان ضميري يرتاح نسبياً. نعم هذه معركة مهمة تضاف الى معارك هذا الوطن الحزين. وكما كثيرين ينتهي يومي في مطعم، أو مقهى، مع مجموعة أصدقاء. نشرب القهوة، ونواصل القلق الجماعي، ثم نودع بعضنا بإصرار ووعد بأن نحب الحياة أكثر. رام الله - وفاء عبدالرحمن