ما ان رأى عماد اسمه مدرجاً في احدى الصحف المحلية ضمن قائمة المقبولين في كلية الهندسة في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية الفلسطينية، حتى توجه الى احد المستشفيات القريبة من مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين في غزة حيث يسكن، للحصول على تقرير طبي يؤكد وجوب معالجة "آلام الرأس" التي يعاني منها في الخارج، ومن المستشفى توجه عماد الى مكتب الارتباط الاسرائيلي لطلب تصريح يسمح له بالسفر الى مصر لتلقي العلاج الطبي. وبعد معاناة المراجعة لأكثر من اسبوع، حصل عماد على تصريح الخروج من قطاع غزة عبر ممر رفح الحدودي مع مصر، وحال وصوله الى الجانب المصري، تولى اثنان من افراد الاجهزة الامنية المصرية مرافقته وعلى طول 600 كلم في الصحراء "ترانزيت" الى مطار القاهرة خشية توقفه فيها حيث استقل اول طائرة متوجهة الى الأردن. وفي مطار الملكة علياء الملكي، استجوب عماد لمدة ست ساعات متواصلة سمح له بعدها بمغادرة المطار على ان يقوم بمراجعة الاستخبارات الأردنية في مقرها في عمان في اليوم التالي. وبعد التحقيق معه، سارع عماد الى جسر اللنبي الذي يفصل الأردن عن الضفة الغربية وهو يفكر في مقعد الدراسة الذي يمكن ان يكون فقده. لكنه اضطر مرة اخرى للدخول في متاهات التحقيق مع الاستخبارات الأردنية على الجسر. وأخيراً وصل عماد الى الجانب الفلسطيني من الجسر، الا انه اوقف مرة اخرى من الاجهزة الامنية الاسرائيلية التي تتحكم بدخول وخروج الفلسطينيين ليخضع لاستجواب آخر. لكنه هذه المرة لم يفلح في اقناع الاسرائيليين على رغم صور الاشعة التي يحملها والتقرير الطبي انه خرج من غزة للعلاج ذلك ان اسمه ظهر في الكومبيوتر الاسرائيلي على انه مسجل كطالب في جامعة بيرزيت الفلسطينية. سلم ضابط اسرائيلي عماد الى مكتب الارتباط الفلسطيني ومعه امر بترحيله "ترانزيت" من دون توقف في الضفة الى غزة. طلب عماد من الضابط الفلسطيني اجراء مكالمة هاتفية تلقى بعدها الارتباط الفلسطيني مكالمة من احد المسؤولين الامنيين الكبار في غزة طلب منهم السماح لعماد في البقاء في الضفة لأنه يريد الالتحاق بالجامعة. رحلة ساعة وثلاثة ارباع الساعة من السفر في السيارة للوصول الى الضفة من غزة، استغرقت الطالب عماد الذي كل ما اراده هو الالتحاق بجامعته. سفر ايام وليال قضاها في غرف التحقيق وعلى حدود دول عدة ليشعر كما قال انه "شاخ" في عز شبابه، حتى قبل ان تطأ قدماه حرم الجامعة التي حلم بدخولها ليصبح مهندساً ويتمكن من اعالة اسرته المكونة من 15 فرداً. لا يحمل عماد بطاقة هويته الغزية ذات اللون الاحمر القاني بتاتاً معه حتى عندما يذهب الى مدينة رام الله تبعد 15 دقيقة عن الجامعة تحسباً من اصطدامه بما يسمى الحاجز الطيار الذي تضعه قوات الاحتلال الاسرائيلي على الطريق لاصطياد طلبة غزة واعتقالهم ومن ثم ترحيلهم. ومن يلقى القبض عليه فقد حلت اللعنة عليه ولن يتمكن من الخروج من سجن غزة الكبير طوال عمره لأنه خرق قانون الدولة العبرية الذي يمنع ابناء غزة من التعلم في جامعاتهم الفلسطينية. لكن عماد على رغم كل ذلك يعتبر نفسه "محظوظا" فقد تمكن من دخول الجامعة بخلاف آلاف الطلبة الغزيين الذين لم يتمكنوا من الوصول الى الضفة وتحولوا الى سوق البطالة المزدحم وزادوا طابور العمال الذين يشتغلون في اسرائيل عدداً. والرحلة التي قام بها عماد قبل عامين كاملين، ليصل الى الضفة بشكل غير قانوني حرمته من العودة الى غزة ورؤية افراد عائلته حتى الآن. وهو والمئات من طلاب الجامعات الفلسطينيين الغزيين الذين يدرسون في جامعات الضفة وفقا لقاموس الاحتلال الاسرائيلي "مجرمون" يطاردون ويعتقلون لأنهم يقيمون بصورة "غير شرعية" في جزء من وطنهم اصبح الوصول اليه يتطلب اجتياز حدود دول عدة، بعد فرض الاغلاق العسكري على الضفة والقطاع ومنع الفلسطينيين من كلتا المنطقتين من الدخول الى الدولة العبرية الممر الوحيد الذي يربطهما ببعض ويفصل بينهما في آن واحد. سياسة الاغلاق العسكري للأراضي الفلسطينية التي انتهجتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي منذ 1990 وأحكمتها بشكل تام في العام 1993 جعلت من المستحيل على طلاب غزة الالتحاق بجامعات الضفة حتى عبر قنوات الاحتلال الخاصة من تصاريح مرور وعمل وغيرها التي تستصدرها للفلسطينيين الغزيين وفقاً لمزاجها خصوصاً ان اسرائيل وعلى لسان حكامها تعتبر شباب غزة جميعاً ارهابيين يجب اغلاق الباب عليهم بالمفتاح وقذفه بعيداً. وبرر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو عندما سئل قبل اشهر عن السبب من حرمان اسرائيل لطلاب غزة الجامعيين من حرية التعليم في جامعات الضفة ان "مواصفات الارهابيين تنطبق على جميع الطلبة". احد الطلبة الجدد الذي يعتبر من المحظوظين الذين تمكنوا من الوصول الى جامعة بيرزيت في هذا العام الدراسي الشاب فرح، قال انه اضطر للمشاركة في مركز دراسي اسرائيلي داخل اسرائيل ليحصل على تصريح دخول لاسرائيل. ويضيف فرح 18 عاماً: "واصلت المشاركة في الدورة التعليمية حتى خلال الامتحانات الثانوية العامة لأتمكن من الحصول على تصريح الدخول لاسرائيل، وعندما بدأ التسجيل في الجامعة توجهت الى رام الله بدل المركز الاسرائيلي وها انا هنا... اشعر انها معجزة". ويرد عليه احد طلبة غزة القدامى: "انصحك بأن تضع اطاراً لهذا التصريح وتعلقه في غرفتك، فلن تحصل على تصريح لفترة طويلة الآن". اما سعد الدين زيادة فوجد طريقه لدخول جامعة بيرزيت عبر الحصول على قبول من احدى الجامعات الأردنية مكنه من الحصول على تصريح للخروج من غزة وعاد هو الآخر بعد سفر ايام ودخل الضفة من طريق الأردن. يقول زيادة بحسرة: "لو انني كنت اعلم انني لن استطيع العودة الى امي وأخوتي الا بعد سنوات لما غادرت غزة". وسهيل البحيصي احد "الارهابيين" كما وصفهم نتانياهو او احد طلبة جامعة بيرزيت الغزيين سنة رابعة هندسة مدنية لم يتمكن من العودة الى مقعد الدراسة بعد قضائه فترة تدريب الزامية قبل التخرج في القاهرة الا بواسطة التهريب عن حاجز ايرز الذي يفصل غزة عن اسرائيل. ويقول البحيصي وهو يضحك من الحرقة "أقلني احد الفلسطينيين الذي يحمل بطاقة في اي بي اي رجل مهم جدا، ولكنه الآن يحتاج الى رجل مهم جداً ليستطيع هو الخروج من غزة". وتتلاشى الضحكة التي اضاءت وجهه للحظة ويضيف: "حالتي افضل بكثير من حالات غيري، فأنا على الأقل تمكنت من رؤية اهلي ومخيمي ليوم واحد، ولكن، هناك العشرات ممن لن يروا اهلهم لسنوات". وأربع سنوات بالفعل مرت على الطالب محمود من مخيم البريج دون ان يتمكن من العودة الى غزة. لكن اشتياق والدته حملها على فعل المستحيل للحصول على تصريح خروج لترى ابنها. يقول البحيصي "عندما وصلت ام محمود شعر كل واحد منا ان والدته هي التي حضرت. تجمع 23 غزياً في المنزل الذي يسكن فيه محمود وتناولنا طبق المفتول الفلسطيني الشهير من يدي ام محمود وانبرى كل منا يصغي الى ما تقوله ويتخيل انه يسمع امه هو: يا الله كم اشتقنا لأمهاتنا، للقمتهن الشهية ودعواتهن التي ترد الروح". ويحاول طلبة غزة التعويض عن الحرمان الأسري الذي يعانون منه بسبب البعد عن الأهل والاقارب. يقول البحيصي "لم اعد استمع الى اغاني عبدالحليم حافظ "يا اصحابي يا اهلي يا جيراني"، فلم يعد هذا الكلام ينفع. لقد ادمنا الفراق لكننا نحاول ان نكون أسرة واحدة فيما بيننا ونقوم بنشاطات اجتماعية معا لنخفف من معاناة الحنين". الصور من تظاهرات تطالب بحق طالب غزة بمتابعة التعليم العالي.