فيلمان أكّدا حضوراً لافتاً في المهرجانات السينمائية العربية والعالمية خلال السنة المنصرمة، عبر رؤية أصيلة وفريدة لمخرجين اجتمعا في تناول وجع الفرد الذي يجد نفسه حبيس واقع يلتهم أحلامه الصغيرة ويهدد قيّمه الأخلاقية، كل واحد من الفيلمين يطرح مقترحه الخاص للنجاة والخلاص:"أغنية عصافير الدوري"لمجيد مجيدي من إيران، و"أنشودة طوكيو"لكيوشي كوروساوا من اليابان قدمّا سينما تعرف كيف تصل الى الآخر الذي وإن بدا بعيداً بظريفه وواقعه تجعله يصغي بإهتمام لما تقول ويفهم عمق ما تطرح من مأزق إجتماعي وإنساني واقتصادي يطاول الجميع في عالم اليوم. كشف مجيد مجيدي في"أغنية عصافير الدوري"الهم الإنساني بعمقه وقسوته، منحازاً إلى شاعرية بصرية مرهفة وبساطة اسلوبية متينة. فهذا السينمائي الإيراني يتقن سرد تفاصيل الواقع اليومي المعاش الذي يلامس الوجع ويسميه بوضوح من دون أن يمعن في استنزافه، بعيداً من أي تنازل في لغته السينمائية المكثفة والعميقة. فسينما مجيدي، وإن لم تخرج عن التيار العام الذي يطبع السينما الإيرانية اليوم، تحمل بصمتها الجمالية الخاصة التي تجعل منها سينما الصورة والإيحاء بإمتياز. مفردات حياة جديدة يحكي"أغنية عصافير الدوري"قصة عامل في مزرعة لتربية النعام في إحدى الضواحي الريفية للعاصمة طهران، يعيش مع زوجته وأبنائه الثلاثة في بيت ريفي وسط سهول ممتدة تعرف كاميرا مجيدي كيف تلتقطها لتجعل منها النقيض اللاحق لصخب وازدحام المدينة التي سيذهب إليها كريم على دراجته لإصلاح سماعة إذن ابنته الكبرى الصماء بعد أن طرد من عمله على إثر فقدانه لإحدى النعام. هناك في طهران ستقوده الصدفة للعمل كسائق دراجة تاكسي حيث تبدأ رحلته داخل مدينة ستعرّفه على مفردات حياتية جديدة كالكذب والسرقة والطمع. كان على كريم أن يتعرض لحادثة سقوط في منزله تحت اكوام أغراض جمعها مما تلفظه المدينة على أرصفتها ليدرك هول الإنعطاف الذي جرّه اليه زحامها. لكن مجيدي صنع من حلم ابنه الأصغر بتربية أسماك زينة ذهبية تعيش في مياه عذبة بدل تلك الموحلة التي امتلأ بها خزان القرية بعدا ً رومانسياً موازيا ً سمح بإيجاد مشاهد ملفتة في تصورها وتنفيذها. فمشهد سقوط الإبن ورفاقه على الأرض حاملين البرميل الكبير وفي داخله الأسماك الذهبية المنتظرة والتي حصل عليها بعد رحلة شاقة من العمل والجهد خلال مرض والده، كان ربما المشهد الأقوى تأثيرا من خلال تلك اللقطة البطيئة القريبة التي التقطت تخبط الأسماك الذهبية المنتشرة على الأرض في خلجات الموت الأخيرة والوجوه الصغيرة الباكية من حولها. لكن مجيدي المتفائل دائما ً يمكّن الإبن من انقاذ سمكة يرميها مع أصحابه في خزان القرية الذي سيمتلىء بالماء العذب ليستقبل الأمل الجديد الذي يخبىء وعدا ً بغد أفضل وبأحلام قادمة لا تسقط ولا تموت . أما كيوشي كوروساوا فقد أقدم بجرأة في فيلمه"أنشودة طوكيو"على إحداث منعطف كبير في مسيرته السينمائية مغادراً نوعاً فنياً تحكّم طويلاً بمفاتيحه وسيطر ببراعة على عناصره، ليختبر نوعاً آخر جديداً من دون أن يفقد بوصلته الفنية ورؤيته الإبداعية أو يحيد عن هاجسه الفكري والفلسفي، مسجلاً بذلك أحد أبرع انتقالات مخرج سينمائي من أفلام الرعب إلى الدراما الإجتماعية. وإذا كان كوروساوا نجح في أفلامه السابقة في ايجاد مناخات مرعبة تغلف مدينة طوكيو التي جعلها مقفرة، مخيفة، تسكنها الأشباح وتهددها تأثيرات وأحداث غامضة تسيطر على سكانها لتكشف عن مخاوف دفينة وهلع مكبوت، فهو لم يبتعد في"أنشودة طوكيو"عن ذلك الطرح المخيف، إن لم يكن ذهب به أبعد من ذلك، فقد قدّم هنا مكاشفة صادمة لواقع إقتصادي وإجتماعي يفضح الوحدة والعزلة اللتين تركتا العائلة اليابانية اليوم تخفي تحت مظهر خارجي متماسك فشلها وغياب سعادتها وتفكك قيماً كانت متأصلة فيها. دمار صامت يحكي فيلم"أنشودة طوكيو"قصة عائلة تتحطم بصمت إثر فقدان الأب لعمله بعد سنوات طويلة من العمل في شركة تقدم بشكل تعسفي على تصدير الوظائف للخارج من أجل تخفيض النفقات مستغنية عن خدمات موظفيها اليابانيين، وهو أمر يشهده عالم اليوم في ظل هيمنة الرأسمالية التي تغلّب المنافسة الإقتصادية الشديدة على أي إعتبار انساني. يعجز الأب عن الإعتراف لزوجته وولديه بأنه أصبح عاطلاً عن العمل، فيخرج كعادته من البيت كل صباح ليمضي نهاره أمام مكاتب التوظيف التي تعرض عليه أعمالاً وضيعة ومهينة لا تتلائم مع خبرته ووضعه الإجتماعي. أمّا الزوجة المسكونة بالوحدة والكآبة فستقودها لحظة كشفها سر زوجها إلى ربط مصيرها بمصير سارق يدخل المنزل ويأخذها معه رهينة بعد عملية سطو فاشلة لتافجئه بعدم رغبتها في العودة إلى منزل انهارت مقومات بقائه. والإبن الأكبر الذي يمضي نهاره متسكعاً في شوارع المدينة مع أصدقاء يشاركونه الإحساس بالعزلة عن العائلة وعن مجتمع لا يجد لنفسه مكاناً فيه، ينتهي به الأمر إلى التطوع في الجيش الأميركي كجندي مرتزق للقتال في العراق مبدياً قناعته بأن في ذلك واجب اليابان تجاه البلد الذي يحميه، بعد أن فقد الثقة بمكانة أبيه كراع ومعيل للأسرة. أما الإبن الأصغر الذي يشعر بالابتعاد العاطفي عن أب رفض السماح له بأخذ دروس في البيانو وتعامل معه بعنف ليؤكد استمرار سلطته كأب على الأسرة، فيعمد إلى إخفاء مشاكله المتأزمة في المدرسة ويقرر استعمال المال المخصص لطعامه فيها ليدفع سراً نفقات دروس خاصة في البيانو. وضع كل من مجيدي الإيراني وكوروساوا الياباني شخصياتهما في قلب معركة البطالة والكرامة تاركين لهم خيارات النجاة والخلاص لنقرأ فيها رؤية كل منهما لواقع مجتمعه ومقترحه الخاص للخروج من المأزق الأخلاقي الوجودي الذي يعيشه الفرد اليوم. إن التمعن في اسلوب بناء خطاب"أغنية عصافير الدوري"يشير إلى أهمية المعتقدات الدينية لدى مجيدي وتأكيده على تأصلها في تركيبة الإنسان الإيراني، وهو بذلك لم يبتعد عن النسيج الفكري العام لمجمل أعماله السينمائية. بهذا يمكننا أن نقرأ المحاكاة الإستعارية التي طرحها بين عصافير الدوري والأطفال وفشلهما في كسر الحصار القدري الذي وُجدوا فيه إلا بيد خارجية، وما يدفع للتفكير بهذا الإتجاه هو عنوان الفيلم"أغنية عصافير الدوري"، فتلك العصافير على رغم زقزقتها المستمرة إلا أنها حتماً لن تغني. إنه سؤال حول القدر وإمكان النجاة طرحه مجيدي وتركه مفتوحا ًعلى احتمالات متعددة تجد أجوبتها وفق نظرة كل منّا إلى قضايا الوجود والحتمية أو الإختيار والحرية. هشاشة مكشوفة أما كيوشي كوروساوا، الذي جعل دائماً من الطبقة الوسطى موضوع بحثه وطرح بجرأة زيف ما تمثله من نموذج يفاخر به مجتمع من مجتمعات العالم الأول، عمد هنا كما فعل في أعماله السابقة إلى كشف هشاشتها وخلل بنيتها المتواري تحت سطح خارجي يبدو متيناً ومتماسكاً كما تقتضيه ثقافة مجتمع أبوي. وكوروسارا الياباني الميّال للذهاب بالتجربة الإنسانية إلى أقصاها، لن يدع شخصياته تعثر على أجوبتها التائهة قبل أن يجعلها تعيش كامل تجربتها في البحث عن ذواتها لتعود وقد عثرت في داخلها على ما يدفعها لتبدأ من جديد. فلن يقبل الأب في النهاية أن يصبح سارقاً ولن تستسلم الأم للرغبة بإنهاء حياتها وارتباطها بعائلتها، وسيرفض الإبن الأكبر أن يستمر كقاتل في العراق فيقرر القتال مع الطرف المقاوم للإحتلال منسجماً بذلك مع عقيدته وحضارة بلده، ولن يسحب الشارع والتشرد الإبن الأصغر الذي سيعود إلى منزله منتظراً والديه على مائدة العشاء التي حاولت العائلة طويلاً رسم شكل ٍ مزيف ٍ للدفء من حولها. إذا كان مجيدي أوجد في النهاية ماء عذبا لسمكة الإبن الصغير تعيش فيه بعد أن أدخل شخصياته التجربة ونجحت في اختبار الصبر وثبات العقيدة، فإن كوروساوا لم يجد ما يعد به شخصياته خارج ذواتها وقناعتها الداخلية بضرورة الإستمرار بالتطلع لغد أفضل. فلم يتخل عن اسلوبه في التقاط عناصر الحياة العادية لينسج حولها مناخاً متكاملاً من الريبة وعدم اليقين في اللون والصوت وإختيار اللقطات، منهيا ً فيلمه بمشهد أضفى عليه مناخاً تأبينياً أعاد فيه العائلة إلى مائدة العشاء الأولى، لكن بحال جديد جعلهم يتناولون طعامهم بصمت مخيف. نشر في العدد: 16723 ت.م: 16-01-2009 ص: 23 ط: الرياض