الذين يؤدون قسطهم للعلا لا يموتون إنهم في يقظة الناس. هذا الخالد الذي أخذ محلّه في الزمن. هذا العملاق الذي اشتغل في تشييد الهياكل. هو من الفنانين الذين وَجُب وجودهم لحفظ سلطان النغم وأبقاء الشعر قرين الطرب. له هامة أبطال الملاحم. ترفّع عن الابتذال من دون أن يسكن برجاً. ظلّ يصفّق بجناح واحد حتى هوى. الآن، يتحقق اللقاء المنتظر بينه وبين عاصي. فالرجلان صنعا مساحة من التاريخ اللبناني الأصيل الحيّ الذي نُحافظ عليه في زوايا قلوبنا. وهما تجسيد لقطعةٍ من تربة هذا الوطن. منصور الرحباني لم يكن شاعراً ولا موسيقياً ولا أديباً، كان خميرة حضارة تدفنه في الأرض اليباب فيطلع منها خبز المعرفة والحق والجمال. شهدنا نشوء خواطره وتفتّح صباباته ومواجيد نفسه، فكأن الحياة كانت تصبّ في صدره مادة العبير والنور. إن الذين جاؤوا الشعر بالوزن والقافية في اول الدهر، إنما جاؤوا بهما لمّا لحظوا من عجز الكلام عن حسن الأداء، فكأنهم أمدّوه بهذا الذي في القافية يُشبه الإيقاع وبهذا الذي في الوزن يشبه النغم، أي أنهم أسعفوا الكلام بالموسيقى وما برحت الموسيقى أجلّ أدوات التعبير عن خوالج النفس البشرية. فيا عطاياه المضمّخة بالبركة تعرفين كيف تُحفظ خزائن الدرّ في باطن التاريخ. فقرّي عيناً واطمئني روحاً فما زلت في ضمير الوطن سكناك الأبد ودنياك الخلود. ممثل وباحث في الموسيقى