} يروج في الآونة الأخيرة كلام كثير عن ظاهرة "الأخوين" رحباني. بعضه يفصل بينهما وبعضه يؤكد وحدة هذين الأخوين وانصهارها التام. حين سألته، مرة، عن العمل المسرحي الأكمل الذي قال فيه، مع أخيه منصور، أجمل ما يحلمان، وأفضل ما يريدان، أجابني عاص الرحباني بالحرف الواحد: "كل مسرحية كنا نفكر في كتابتها، ونجتهد في رسمها على الورق حوارات وأغنيات وموسيقى ومواقف درامية وانسانية وفولكلورية، ثم ننقلها الى الخشبة اخراجاً وتنفيذاً وتعباً وعرقاً ومسؤولية، كانت تصبح بعد ليلة الافتتاح... "شرشوحة"! صعقت بالجواب. كنت أنتظر ان يقول لي عاصي الرحباني ان كل مسرحية كان يبدعها هو ومنصور تصبح في ليلة الافتتاح عروساً، أو ملكة متوّجة، أو رمزاً أو قيمة أو... الى آخره من الأوصاف التي يعتمدها الفنانون عادة في التعبير عن اعمالهم المميزة، فإذا بعاصي يأتيني من حيث لا أدري، ومن حيث لا يمكن ان يدري أحد! هكذا كان عاصي الرحباني. يأتي باستمرار من المفاجأة. من لحظة جديدة تولد على حين غرّة فيبتسم لها وعي الحياة الفنية ويكاد يرقص. فعاصي كان صاحب نظريات ابداعية مختلفة تبدأ من عكس المشاعر أو الآراء التقليدية الراكدة التي يلتزمها الآخرون، ولا تنتهي في مساحة غير الحيرة والتغيير والثورة. وكلمة "شرشوحة" التي استعملها عاصي هي المعنى الشعبي المرادف للرداءة، والرداءة المجلجلة تحديداً. والهدف ان عاصي ومنصور كانا، في كل مرّة، ينجزان مسرحية، يشعران، بعد اتمامها، انها اقل بكثير مما كانا يطلبان، سقفها أدنى مما كانا يطمحان، وجمالها أبطأ وقعاً مما توقعا، حتى في عزّ نجاحها واكتمالها، على أساس ان المسرحية حين تكون في المخيلة تحتفظ بعناصر الإدهاش البكر بل منازع، بينما في انتقالها الى حيز التنفيذ تخسر كثيراً من تكويناتها الأصلية المجنحة، وتالياً فإنّها تصبح "شرشوحة"، وطبعاً فإن المبالغة الكاريكاتورية في هذه الكلمة لها دور بارز في كشف ما في عقل عاصي من استعداد لاجتراح المستحيل. كانت بين عاصي الرحباني وبين رفض الاعجاب بالذات، علاقة هي أقدس ما كان يربط عاصي، بما يفعل، بما يكتب، بما يلحن، بما يبدع. لم يكن في يوم من الأيام إلا العصا التي يمتشقها في وجه لحظات نفسية "مريبة" كما يقول، تدعوه لأن يطمئن الى نتاجه، فيرتاح على استكانة وغرور. وليس إلاّ ذلك الرفض الخلاّق أعطى عاصي الرحباني فرادة لا تقارن بآخرين، ذلك انه رفض متأصّل ومبني على رؤية للماضي وللحاضر والمستقبل، متكاملة، فلا الماضي هو نهاية العالم، بل هو قاعدة لانطلاق أخضر الحيوية، ولا الحاضر هو الاكتفاء، بل هو محطة في بلوغ الأرقى، ولا المستقبل هو الوعد بالجنّة الابداعية، بلا هو منصة لمستقبل بعيد سيأتي دائماً بعد مستقبل قريب. هكذا، دورة الزمن تخلق امكانات التفوق، عند عاصي الرحباني، في أجيال ستغيّر وتطوّر وتثوِّر الحياة الفنية والمبتكر والتجاوزي. وبقدر ما كان عاصي الرحباني عميقاً، كان بسيطاً، حيث للبساطة معنى العمق نفسه. في الفكرة المسرحية، وفي الكلمة المغنّاة، وفي اللحن، وفي التوزيع الموسيقي، وفي الاشراف على كل شاردة وواردة، أصرّ عاصي الرحباني على ان يكون بسيطاً، والبساطة طفولة تتعامل مع الأشياء بجنون وبلا حسابات ومن دون أي براقع ادعائية قاتلة. وكلما كانت ثقافته تحفر في الاستشراق والتحليل والاستنتاج كانت ثقافته ذاتها تحفر في أخذ الدنيا، كلها، كأنها ملهاة ولكن جدية، ولكن مضحكة مبكية في آن، مزيجاً من العلم والموهبة، ومزيجاً من الطبيعة وما فوق الطبيعة، ومزيجاً من الإنسان والرموز معاً، كان عاصي. على يدي العلم كان عاصي يربّي مكنوناته الدفينة والظاهرة، وعلى نسيم الموهبة كان يرفع قدره الجميل. وعلى دقة الطبيعة كان يقيس تناسق العمل الفني، وعلى ما فوق الطبيعة كان يرسم "الزيح" ويتخطّاه"، وعلى محدودية الإنسان كان يتمرد بالميتافيزيك، وعلى نبل الماوراء كان يضع آماله الصافيات تقرباً وتحبباً. وإذا عاصي الرحباني واحد من اثنين، ارتضيا الذوبان في "شخص" وهمي هو الاخوان رحباني، وصار الاخوان اخوين حقيقيين لملايين احبوهما وأدركوا في ما فعلا ما لا يمكن ادراكه بغير ابداع، هو ابداع موصوف ثابت، وجماله الساحر يتحرك منذ أربعين عاماً كما تفعل الرياح. لم يكن عاصي الرحباني على قلق كأنّ الريح تحته على قولة المتنبي، وانما على قلق كأن الريح فيه. فيه حقاً. عبدالغني طليس