حين تخطت جنازات الشهداء في غزة من الرقم ألف، وخطفت العرب انقساماتهم، لم يجد أحد دعاة الحقد الإسرائيلي حرجاً في التهديد بضربة نووية. ... لا يمكن التطرف أن يكون امتيازاً للسياسة وحدها، بل هو سمة ممكنة أيضاً للقتل، كما للفكر وترويج سموم الفتن، ودسها في"عسل"الذين يدّعون الألم أمام إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة... ويلعنون في النهاية ما يسمونه"إرهاب حماس". لا يمكن أي عربي ان يكون مع اسرائيل العدو في مواجهة أي عربي، ولا حاجة لديه لمزيد من الأدلة على ان أي حزب في الدولة العبرية سينافس الآخرين على قتل مزيد من العرب، كلما أُتيح له تسلّق سلالم المراتب، على دمائهم. ومحنتهم الكبرى، أن التسلق لدى الإسرائيلي أنواع، أعلاها اجتراح الحلول على طريقة أفيغدور ليبرمان، ففي اليوم الذي اقترب عدد الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة من الألف، بعد مئات الأطنان من حمم الوحشية التي مارسها الجيش الإسرائيلي، يبتدع ليبرمان حلاً"للخلاص"، يجنّب هذا الجيش مزيداً من العناء... وكدّ القتل في المجزرة الكبرى. والحل لدى ليبرمان الذي حرّض يوماً على قصف السد العالي في مصر، خلاصته سيناريو هيروشيما ثانية في غزة المنكوبة:"قنبلة نووية على القطاع وتدميره بالكامل والانتهاء من المشكلة، والتخلص من وصف العالم لإسرائيل بأنها دولة احتلال". كلام افيغدور لم يعلنه امام حاخامات إسرائيل، بل هو كان محاضراً في طلاب جامعة بار ايلان، ليضيف ما يقنع الجميع بأن جيش أولمرت - باراك - ليفني لا يتورع عن ممارسة الإبادة بحق بشر عزّل، بذريعة وقف صواريخ"حماس"... كما لم يتورع مرات في فلسطين ولبنان. صحيح أن وطأة المجزرة أكبر بكثير من انتقاد"حماس"أو توجيه اللوم إليها، بالعودة الى بدايات يصطادها عادةً الإسرائيلي بمكره وخبثه، وصحيح ان الفلسطيني الضحية الذي ينتظر مصيره بين الركام وأشلاء الأشقاء والأبناء والأمهات، لا يستجير بالعرب إلا وتصفعه وقائع انقساماته وانقساماتهم حتى في أيام النكبة... لكن استخدام المزيد من ذخائر اللعنات الموجهة الى هذه الانقسامات وذاك الخبث الذي يعادل الكفر حين يتلطخ بدماء الأطفال وصراخ الجرحى، لن يكون مآله إلا طمأنة الجلاد إلى سقف الغضب لدى العرب. محنتهم في الأرقام، إحصاء الضحايا والهزائم، والانقسامات التي انقلبت إحصاءات في رصد النصاب لحضور قمة. هل هناك ما هو أفضل من النزاعات في صفوفهم لتطمئن الوحشية الإسرائيلية الى ان الإبادة وجرائمها، ستمر بلا عقاب؟ هل أفضل من إضعاف كل اعتدال فلسطيني وكل اعتدال عربي لتبرير التطرف البربري الإسرائيلي بتطرف آخر، معه يتداعى الغرب والشرق لحماية أمن الجلاد؟ لم ينسَ أحد بعد، ان الوزيرة ليفني وقفت في القاهرة عشية الحرب على غزة، لتزرع اللغم الكبير بين مصر و"حماس". ثم تكرر المحاولة موحيةً بأن للمفاوضات حول مبادرة الرئيس حسني مبارك، خريطة طريق لا تفهمها الحركة، فتحرضها بالتالي على النيات المصرية. مَن ينسى لقطات العناق التي كان أولمرت يحرص عليها كلما التقى الرئيس محمود عباس، ثم يربّت على كتفه، ليوحي ل"حماس"زوراً بأن الرئيس متعاون مع الأهداف الإسرائيلية؟ وأقرب الى صراع النيات المكلِف ان يبقى العرب مختلفين على مَن يناصر غزة وأهلها، فيما القتل الإسرائيلي يتسارع وتيرة كلما علت صيحات الاحتجاج غضباً في الشارع، وازداد الانغماس المزمن في المنطقة بتوزيع اللوم والاتهامات، وتحريض النفوس واستحضار لغة التواطؤ والتآمر والخيانة، بل العمالة للقاتل. هي اللغة التي لم تنقذ طفلاً في غزة، ولن تبدل في ميزان القوى، مهما بلغ التشكيك في عروبة العرب، تشكيك أبدي ايضاً يبدو جاهزاً ليحرض على نعيها، والنعي في كل حال لا يخدم سوى الذين يتحركون على خطوط التماس في المنطقة، ليؤسسوا لمرحلة تقاسم النفوذ الإقليمي. تتآلف القوة الوحشية الإسرائيلية مع القوة الأميركية التي ستكون"ذكية"في عهد باراك أوباما، لذلك تبقي الأولوية لأمن إسرائيل، وتبقي"الإرهاب"عربياً. تؤجل أوروبا تعزيز علاقاتها مع الدولة العبرية لأن المرحلة ليست ملائمة، العرب لا يؤجلون خلافاتهم، امام مقصلة الإبادة. الإبادة مستمرة، عقدت قمة أم لا، المعضلة في نوع الرد العربي على المجزرة، المعضلة تجدد ذاتها، بين إجماع وتوافق، وستتجدد لطالما الذريعة الجاهزة ان الإجماع المفترض من فئة"الوطني"وأن الآخر"لا وطني". لا أحد يتوقع ان تفرض أي قمة على إسرائيل استجابة مطالب العرب، ولكن أليس إنجازاً حرمانُها من سلاح الخبث الذي يضاعف خلافاتهم، لتتفرد بهم جبهة جبهة، ومساراً مساراً؟... وقمة قمة؟! لا أحد يحتاج دروساً في الوطنية، ولا بيان تنديد سيلجم آلة القتل الوحشية في غزة، أو يخيف عنصرية تهدد الفلسطينيين بهيروشيما. نشر في العدد: 16722 ت.م: 15-01-2009 ص: 15 ط: الرياض