تعتقد طهران أن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ستفيدها بشكل إستراتيجي. ففي تصور كبار المسؤولين الإيرانيين، خصوصاً الرئيس اليميني المحافظ محمود أحمدي نجاد والمؤسسات الدينية والسياسية النافذة في طهران، أن الحروب والتوترات والنزاعات الحادة في المنطقة، في العراق وأفغانستان ولبنانوغزة مثلاً، ستفيد إيران في عدة مجالات سياسية مهمة: الأول، يفيدها في إضفاء مزيد من التعقيدات على عملية المفاوضات السلمية الجارية بين تل أبيب من جهة والسلطة الفلسطينية وبعض دول الإعتدال العربي من جهة ثانية. وما يزيد من حاجة إيران الى مفاقمة هذه التعقيدات أن الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما أعلن عزمه على تنشيط عملية السلام في الشرق الأوسط. في الوقت عينه، أبدى الزعماء المعتدلون في العالم العربي إستعدادهم الكامل لمساعدة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في مسعى السلام العادل وإقامة الدولة الفلسطينية. الى هذا، ترى طهران، أن زجّ عملية التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل في أجواء بالغة التعقيد والتردي، سيدفع، ايضاً، بالرئيس عباس الى زاوية بالغة الصعوبة والحرج، ما يمكن أن يجبره إما على التراجع عن عملية الإستمرار في التفاوض أو التسليم بإرادة إيران وحماس. لهذا، المطلوب إيرانياً، في هذه المرحلة، هو وضع أكبر قدر ممكن من العراقيل والعقبات أمام عملية التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، بما فيها العقبات الدموية. في سياق متصل، تعتقد طهران أن دول الإعتدال العربي، ومعها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لا تهدف من جهودها السلمية داخل الوضع الفلسطيني الى إقناع حركة حماس بجدوى السلام وإتفاقيات اوسلو، ولا الى مساعدة عباس في إستكمال عملية التفاوض مع الإسرائيليين بنجاح، إنما تريد هذه الدول التضييق على نفوذ إيران في المنطقة. فتيارات الإعتدال العربي والإسلامي، في رأي طهران، لا تعمل للسلام العادل بقدر عملها لمناوأة دور إيران في المنطقة ومحاولة القضاء على نفوذها. لهذا، ترى طهران أن مصلحتها اصبحت تقتضي إعادة خلط أوراق السياسية في العالمين العربي والإسلامي، وذلك عبر إطلاق دوامة أخرى من الدماء، هذه المرة في قطاع غزة، بعد الدوامة اللبنانية في العام 2006. الثاني، يمكن أن يفيدها في إيجاد مبرر عملي لدفع سورية الى التراجع عن مفاوضاتها غير المباشرة مع الإسرائيليين عن طريق أنقرة. فإيران التي امتعضت بشكل واضح من دخول السوريين في التفاوض غير المباشر، وإعلانهم اللاحق أنهم لا يمانعون في الإنتقال الى مرحلة التفاوض المباشر مع إسرائيل، دأبت خلال الأشهر الماضية على تعكير أجواء السلام مع إسرائيل بغية إقناع دمشق بلا جدوى أي تفاوض سياسي مع تل أبيب، خصوصاً إذا كان الهدف من مفاوضات أنقرة إيجاد شروخ في جدار التحالفات الإستراتيجية بين إيران وسورية وحزب الله وحركة حماس. الثالث، يمكن لإحتراق غزة أن يفضي الى تقليل جرعة الدعوة الى الحوارات السلمية في لغة أوباما وذلك عبر زجّه، مع أول شروعه في مهامه الرئاسية في البيت الأبيض في العشرين من الشهر الجاري، في أتون إشتعال جديد لما تصفه إيران بقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يشار الى أن أوباما، بلونه وخلفيته الثقافية والدينية، يشكل بالنسبة الى إيران خطراً يفوق خطر الرئيس المغادر جورج بوش، خصوصاً أنه أكد في تصريحات سابقة عزمه على حل النزاع مع إيران عبر الطرق السلمية. لكن المشكلة أنه إشترط لهذا الحوار إلتزام طهران وقف برامجها الخاصة بتخصيب اليورانيوم، ما قطع الأمل، على الأقل لدى الإيرانيين، بإمكان الحوار معه. الرابع، يمكن لإشتعال غزة بصواعق الحرب والمواجهات أن يُشغل الولاياتالمتحدة وإسرائيل ويدفع بهما الى غضّ النظر، ولو لفترة قد لا تكون طويلة، عن الدور الاميركي في العراق وأفغانستان، إضافة الى غض نظرهما عن برنامجها النووي وما يترتب على هذا البرنامج من فرض لعقوبات دولية أو تهديد بشن حرب أميركية أو التلويح بإستعداد اسرائيلي لقصف منشآتها النووية. الخامس، ترى طهران أن الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي ودول الإعتدال العربي والإسلامي تحاول في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الحرب ضد الإرهاب، تركيز جهودها على إطفاء الحرائق وحل النزعات في المنطقة عبر الوسائل السلمية وحثّ دولها وكياناتها وشعوبها على التعاون السياسي والإقتصادي والتجاري والثقافي في ما بينها. فهذه الشروط في القناعة العصرية الراهنة، هي وسائل ناجعة للقضاء على الإرهاب ومصادره. أما طهران، فإن مصلحتها الاساسية، على العكس، تتمثل في توسيع رقعة الحرائق وزرع النزاعات والتدخل في شؤون الآخرين وتعطيل عمليات التنمية الإقتصادية والسياسية والثقافية ومحاولات العصرنة والتحديث. فالتربة التي تسمح لأنظمة شمولية وإستبدادية، كإيران، بالديمومة والبقاء ومقاومة تيارات العصر هي تربة التخلف والصراعات الدموية والحروب. لهذا، تعتقد أن المنطقة ليست في حاجة الى الإستقرار والسلم والتنمية، إنما الى الحروب والصراعات والتنابذات الدموية. ما يجري اليوم في غزة من اطلاق لهمجية الآلة الحربية الإسرائيلية، وما فعلته هذه الآلة بالأمس في لبنان، هو عين ما تريده إيران للمنطقة. نهاية القول، إن لإيران أهدافاً في غزة. بل ان ما نشهده من حرائق ودماء في هذا القطاع بفعل الطائرات والمدافع والقطعات العسكرية الإسرائيلية، ليس في حقيقته سوى النتاج الطبيعي لسياسة إيرانية مدروسة بعناية، نجحت في محصلتها الأخيرة، في توريط الإسرائيليين وحركة حماس في مواجهات دموية غير ذات جدوى. * كاتب عراقي.