يأتي وقت، أحياناً، لا مناص فيه من تسمية الأمور بأسمائها لأن التردد في اتخاذ هذه الخطوة - باسم الديبلوماسية أو المهارة السياسية أو أي شيء آخر - انما يؤدي الى إلحاق الأذى الفظيع بصدقية الطرف الذي يتردد وبضحايا المناورات المؤذية إن كانوا مدنيين أبرياء في فلسطين أو جيل كامل في لبنان. يأتي وقت يجب فيه على المكلفين بالتوسط أو الذين نصبوا أنفسهم قنوات خلفية أن يتصرفوا طبقاً لما يمليه عليهم الضمير لأن عليهم حقاً مسؤولية أخلاقية وسياسية تملي عليهم أن يسمّوا الأمور بأسمائها. يأتي وقت لا بد فيه من المحاسبة لأن غض النظر أو توزيع اللوم أو الاستسلام لأمر واقع يفرض أو الخضوع أمام ألاعيب شراء الوقت والتملص من الاستحقاق ستكون مكلفة لجميع المعنيين. والأمثلة عديدة على من يجب مواجهته اليوم ومطالبة بالكف عن الإفراط: وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك الذي تغص حنجرته بريق الانتقام من الفلسطينيين باعتبارهم، في رأيه، الطرف الذي استرق منه فرصة دخول التاريخ في مفاوضات كامب ديفيد وطابا وسلب منه منصب رئيس الوزراء ليسلمه الى ارييل شارون. باراك اليوم يتهيأ ل"عقاب جماعي"للفلسطينيين المدنيين انتقاماً، وهو يفاوض سورية عبر القنوات الخلفية ليعيد اليها نفوذاً وسيطرة في لبنان في صفقة اقليمية تجمع بين خيالية فصلها عن ايران وتصوّر الحفاظ عليها كراع للمنظمات المتطرفة من أجل إضعاف السلطة الفلسطينية. * نبيه بري، رئيس مجلس النواب في لبنان الذي استرق العملية الديموقراطية وحوّل البرلمان من مؤسسة ديموقراطية الى سلعة لمصالح شخصية ضيقة، مالية وسياسية. فقد عطّل العملية الديموقراطية أكثر من مرة برفضه عملياً أن يخرج مفتاح مجلس النواب ليسمح لعقد جلسات تصويت. انه يتاجر بسلطة المنصب الذي يحتله وبمستقبل لبنان ويعمل على تعطيل الوساطات العربية والدولية بمعادلات وحسابات وصيغ تمليها عليه دمشق. لقد حان وقت تحميل بري مسؤولية مباشرة عما يقوم به لا سيما أن الكثيرين يعرفون مفاتيح أخرى عديدة لمحاسبته، بما في ذلك أمام القضاء. * المؤسسة الحاكمة في ايران - وليس فقط الرئيس محمود احمدي نجاد - يجب أن تتبلغ موقفاً عربياً بجدية فحواه أن مزايداتها تكلف أرواح الفلسطينيين ضحايا الاحتلال المرير وتفاقم معاناتهم الانسانية. وبات ضرورياً تسمية الأمور بأسمائها لجهة الخدمة التي تتقدم بها قوى التطرف المريب الى اسرائيل. * دمشق التي تتاجر ب"المقاومة"وهي تتهرب وتتملص من استحقاقاتها فيما تغازل اسرائيل عبر قنوات مختلفة. انها تستخدم المنظمات الفلسطينية لإضعاف الأوراق الفلسطينية إزاء اسرائيل. فلا هي جاهزة لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي بجدية تتطلب منها الكف عن اعفاء الجبهة السورية من المقاومة. ولا هي مستعدة للكف عن أساليب إضعاف السلطة الفلسطينية التي تبنت المفاوضات أساساً للمسيرة نحو بناء الدولة الفلسطينية. ولذلك حان وقت تسمية الأمور بأسمائها حول أدوار النظام السوري في فلسطينولبنان والعراق، على حساب الفلسطينيينواللبنانيين والعراقيين، وضد المصلحة العربية عامة. * واشنطن المنحازة انحيازاً أعمى نحو اسرائيل تستفيق كل سبع سنوات قبيل انتهاء ولاية رئيسها لتبحث له عن سيرة تاريخية عبر صنع السلام العربي - الاسرائيلي. واقع الأمر أن كل من يعرف الف باء مشكلة الشرق الأوسط يعرف المطلوب، وهو ان تتجرأ الولاياتالمتحدة، ادارة أو مؤسسة حاكمة، أو كونغرس على مطالبة اسرائيل بالكف عن التملص من السلام واستحقاقاته. فما لم تجرؤ واشنطن على استخدام الأدوات التي لديها مع اسرائيل، فهي تلعب بالنار ليس فقط لجهة ما سيخلفه فشل أميركي آخر على صفوف الاعتدال في المنطقة، وانما أيضاً لجهة كيف سيضرب ذلك المصالح الوطنية الأميركية ذاتها. * كذلك الأمر في ما يتعلق بأوروبا ومعها روسيا والأمم المتحدة التي تشكل جميعها"اللجنة الرباعية"المعنية بالبحث عن حل للنزاع العربي - الاسرائيلي. لدى هذه الأطراف أدوات الضغط المتعددة على مختلف اللاعبين ولقد باتت عليها مسؤولية أخلاقية للكف عن التملص والاكتفاء باجتماع هنا وتصريح هناك. فإذا كانت اسرائيل تتهيأ حقاً لإعادة اجتياح غزة، فمفاتيح وقف اجتياح كهذا تقع في أيدي روسيا وأوروبا ايضاً وليس فقط في الأيدي الأميركية. * التطرف العربي والاسلامي الذي يبيع الفلسطيني لغة التحريض والاحتجاج الفارغ، مطالب بالكف عن ابتزاز القضية الفلسطينية. فحرام المزايدة على شعب يرضخ تحت احتلال لأن مزايدة كهذه انما تضيف الإهانة الى الجرح. روسيا لها نفوذ مع أقطاب التطرف في دمشق بالذات، ويجب عليها، أخلاقياً، الا تشجعها. فموسكو تبدو وكأنها في استخدام مزدوج لديبلوماسية التفاوض والمقاومة. * الاعتدال العربي نفسه يجب ألا يكون معفياً من المحاسبة. فهو فشل، حتى الآن، في إقناع الناس به لأنه لم يعتمد استراتيجية متكاملة. أقطاب فيه يترددون كثيراً في تسمية الأمور بأسمائها، وينجرون وراء تخيلات. فإذا كان محور الاعتدال اختار حقاً دعم الخيار الفلسطيني بالتفاوض، فقد حان له أن يخاطب كل المعنيين بالعربية والفارسية والانكليزية والروسية والعبرية والفرنسية ليسمي الأمور بأسمائها، وبجرأة، وبالمعنى التالي: ان السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض هي المدافعة عن حقوق الفلسطينيين، وأن"حماس"التي قامت بالانقلاب على السلطة باتت تتاجر بالفلسطينيين طالما أنها تضع نفسها وايديولوجيتها وسلطويتها وولاءها لدمشقوطهران فوق الاعتبارات الوطنية للشعب الفلسطيني. اسرائيل عازمة على استخدام التطرف العربي والاسلامي - الممتد من دمشقوطهران عبر"حماس"وغيرها من المنظمات الفلسطينية - لإضعاف السلطة الفلسطينية التي تفاوضها، عبر سكتين أساسيتين هما:"حماس"وغزة، بمعنى ابراز عدم سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع وإشعار"حماس"باستمرار فشل السلطة الفلسطينية في ضبط الساحة الفلسطينية التي تمثلها. السكة الثانية هي السكة السورية بمعنى أن اسرائيل تتغازل مع دمشق، وليس الجولان السوري المحتل هو الأولوية لها أو لدمشق في هذا الغزل، وانما لأن الكلام عن المسار السوري من المفاوضات يخدم في تحويل الاهتمام بعيداً عن المسار الفلسطيني. لو كانت اسرائيل حقاً جدية في السعي وراء السلام لتوجهت الى المصدرين الرئيسيين لإضعاف الشريك في المفاوضات وتقوية"حماس"وغيرها من المنظمات باطلاق قذائف وصواريخ على اسرائيل وهما: دمشقوطهران. انما، عملياً، وعلى كل حال، فالسؤال الذي يجب على الفلسطينيين التدقيق فيه هو التالي: ماذا تلقى الشعب الفلسطيني في غزة من"دعم"ايران وسورية له ولحركة"حماس"التي انشقت عن السلطة الفلسطينية والعملية الديموقراطية التي أتت بها الى السلطة؟ تلك القذائف ليست مقاومة جدية للاحتلال الإسرائيلي وإنما هي استفزاز للرد الوحشي الإسرائيلي المنافي للقانون الإنساني الدولي. حق الفلسطينيين بالمقاومة هو حق أساسي ومبدئي طالما هناك احتلال إسرائيلي، ولا يحق لأحد أن يطالب الفلسطينيين بالتخلي عن المقاومة. خيار المقاومة لا يقتصر على المقاومة المسلحة، بل هناك أمثلة تاريخية على نجاح المقاومة المدنية أكثر من المقاومة المسلحة. ومرة أخرى، وعلى كل حال، ماذا قدمت سورية إلى الفلسطينيين في غزة سوى"مؤتمر"في دمشق عن المقاومة هدفه اضعاف المفاوض الفلسطيني مع إسرائيل؟ ومتى وضعت إيران مصلحتها في مرتبة ثانية بعد المصلحة الفلسطينية بأفعال جدية وليس بمزايدات وبيع كلام؟ حتى الآن، أن العلاقة التهادنية التاريخية بين إيران وإسرائيل وبين الفرس واليهود ما زالت لم تتأثر جذرياً على الاطلاق بالقضية الفلسطينية، بل إن اسرائيل لعبت دور العرّاب في صفقات إيران - كونترا.. إضافة الى ذلك، وبعد انقلاب حركة"حماس"على السلطة الفلسطينية بتصفيق سوري وإيراني، ماذا قدمت طهرانودمشق إلى قطاع غزة تحت سيطرة"حماس"مما يجعل الوضع الفلسطيني أفضل؟ ليس هناك أي دليل على اندلاع الأموال الإيرانية والسورية لدعم المؤسسات في غزة، وإنما هناك دلائل على المتاجرة بأهالي غزة خدمة لغايات إيرانية وسورية. بالمقابل، أن السلطة الفلسطينية المتمثلة بحكومة عباس - فياض تقاوم الاحتلال الاسرائيلي مقاومة فعلية وعلى الارض، إذ أنها تقوم ببناء الدولة الفلسطينية لبنة بلبنة، على رغم أنف إسرائيل، وبمشاركة دولية وباشراف عالمي. هكذا يمكن توجيه الأنظار الى التجاوزات الإسرائيلية للقوانين الدولية وإلى التملص الإسرائيلي من استحقاقات السلام. بهذا الاسلوب الذي تعتمده حكومة عباس - فياض يتم فضح إسرائيل إذا كانت تنوي تنفيذ سياسة"التنظيف العرقي"وتتم ايضاً مواجهتها بتنظيم البيت الفلسطيني ببناء أسس الدولة. فهذه الحكومة تبنت خيار المفاوضات، بدعم عربي وعلى أساس المبادرة العربية للسلام، ولا يحق لإيران وسورية إضعاف ورقة التفاوض الفلسطيني مع إسرائيل ولا نسف أسس بناء الدولة الفلسطينية. إنهما بهذا الموقف وباستخدامهما حجة"المقاومة"لدعم حركة في وجه السلطة الفلسطينية، إنما تقدمان أكبر الخدمات إلى إسرائيل أولاً وأخيراً. إسرائيل ستبقى فاشلة، وإن اعتقدت أنها تنجح. إنها في هروب إلى الأمام وفي عقلية حصار ستؤدي إلى تآكلها في نهاية المطاف، إذا لم تستدرك وبسرعة. المعلومات تفيد أن إسرائيل تنوي العودة إلى غزة عسكرياً بحجة العزم على محو قيادة"حماس"عن بكرة ابيها. وبالتأكيد، لن تدخل سورية أو إيران طرفاً مباشراً في حرب غزة لإنقاذ"حماس"أو لانقاذ الشعب الفلسطيني من المجزرة. إسرائيل سترتكب مجازر فظيعة في غزة باسم تطهيرها من"حماس"وغيرها، إنما حقيقة الأمر هي أن ايهود باراك عنصري في كراهيته للفلسطينيين بسبب افشال الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات له ولعروضه، بحسب تصوره. واقع الأمر أيضاً هو أن إسرائيل مفلسة في سياساتها وأثبتت فشلها. حربها مع"حزب الله"في لبنان قلصتها الى قوة صغيرة تحارب ميليشيات وتفرط لدرجة التدمير المنهجي للبيئة التحتية لبلد بأكمله وهي تطارد ميليشيا تمكنت من استدراجها. وهي في حال هجوم دائم على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وهي تلهث هرباً من السلام واستحقاقاته. في هذه الحقبة من العقاب الجماعي الآتي الى غزة والضفة الغربية، هناك خيار واحد صحيح هو خيار السماح للسلطة الفلسطينية وحدها ان تكون مسؤولة عن الشعب الفلسطيني. فكفى"حماس"والمنظمات الأخرى التي تصنع في دمشقوطهران التلاعب في رقصة خدمة اسرائيل على حساب الفلسطينيين. انها رقصة التطرف العربي والاسرائيلي والايراني والتي حدث انها في مصلحة عابرة لقوى التطرف هذه. هذه الرقصة تطلبت ارتهان لبنان فيها الى حين استكمال الألاعيب الاقليمية. وقد حان وقت تسمية الأمور بأسمائها هناك، والمسؤولية الآن عربية. فعندما يجتمع العرب للاستماع الى حصيلة الجهود والوساطة التي يقوم بها الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، عليهم ان يجرؤوا على تسمية الأمور بأسمائها لجهة من يعطل انتخاب رئيس في لبنان ومسؤولية سورية عن هذا التعطيل واختلاق الفراغ الرئاسي بالتنسيق مع ايران. مسؤولية عمرو موسى هي ألا يجيّر ضميره لأنه إذا فعل، باسم الديبلوماسية أو غيرها، انما يكون ساهم في قتل لبنان وفي اغتيالات سياسية آتية.