تشكل قضية الصرب في كوسوفو المحنة الرئيسة للدولة الجديدة، فمنذ وصول جيوش حلف الناتو اليها وانسحاب الجيش الصربي منها وأعداد المواطنين الصرب في كوسوفو تتناقص، بالإضافة الى ذلك تشهد المناطق الصربية تحولات ديموغرافية تتمثل في انتقال أعداد منهم الى مناطق بغالبية صربية داخل كوسوفو. ولم يخل الأمر من عمليات انتقامية قامت بها مجموعات البانية في المرحلة الأولى لوجود الناتو في كوسوفو، لا سيما عائلات الضحايا الألبان الذين قضوا في المجازر التي ارتكبها نظام ميلوشيفيتش. من المفترض ان تشكل قضية صرب كوسوفو التحدي الأبرز للدولة الجديدة، لا سيما انها دولة"من اجل التعددية وحقوق الأقليات"وهو تعريف بمثابة تعهد دولي. في مقابل ذلك يرفض معظم الصرب الكوسوفيين الانخراط في التجربة ويستمرون بارتباطهم ببلغراد، وهم على رغم ذلك مصرون على البقاء في"ارض الأجداد"ومهد"الثقافة الصربية"، وحلقة اليوم من سلسلة التحقيقات عن كوسوفو مخصصة للقضية الصربية: ربما كان ذلك الجسر على نهر ايبري في مدينة ميتروفيتسا في شمال كوسوفو اشهر جسر في البلقان بعد جسر نهر درينا الذي اختاره الكاتب الصربي ايفو آندريتش مسرحاً لروايته التي نالت جائزة نوبل للأدب، ذلك الجسر الذي يشكل اليوم الحد الفاصل بين صربيا والبوسنة. ونهر ايبري مرشح بدوره الى ان يفصل بين دولتين احداهما صربيا، على رغم انه يقع في قلب كوسوفو، اذ انه الحد الطبيعي للجيب الصربي في كوسوفو، ذلك الجيب الذي يمتد من نهر ايبري شمالاً باتجاه الحدود مع صربيا. أما الجسر فيصل طرفي مدينة ميتروفيتسا الجنوبي حيث تعيش غالبية البانية والشمالي حيث يقيم الصرب. وعلى الجسر كما على ضفتي النهر تتمركز وحدات من قوات الأممالمتحدة. الحرب في كوسوفو انتهت في عام 2000 لكن الوقائع على جسر نهر ايبري ما زالت تنذر باحتمالاتها، فهو جسر الاحتقانات الصربية الألبانية وعبوره ليس بديهياً لكلا الجماعتين في المدينة، على رغم انتشار القوات الدولية على جانبيه، فمرافقنا الألباني رفض مرافقتنا في رحلة عبور الجسر، وقال ان جماعة"حراس الجسر"التي يقول إنها ميليشيا صربية أفرادها يرتدون ملابس مدنية وينتشرون في الجانب الآخر من الجسر، تتعرض لأي الباني يعبره باتجاه الجانب الصربي. والأرجح ان ما قاله مرافقنا ناجم عن حمى مخاوف قومية، لكن لا يبدو ان الوقت مناسب لاختبارها، فلا بأس من مراقبة الحركة من الطرف الجنوبي. الحركة على الجسر خفيفة وبطيئة، ومن الواضح ان العلاقة بين طرفي المدينة تكاد تكون منعدمة، وان نهر ايبري صار يفصل بين عالمين يتبادلان المخاوف. فالسيارات القليلة التي تعبر تبدو حائرة، وعدد الألبانية منها المتجهة الى الجانب الصربي يفوق عدد السيارات الصربية المتجهة الى الجانب الجنوبي الألباني. يشير مرافقنا الى العلم الصربي المرتفع فوق إحدى الدوائر الحكومية، ويقول:"هناك لا تزال مؤسسات الدولة الصربية تعمل على رغم إعلان الاستقلال"ثم يشير أيضاً الى مبنى كبير كتبت عليه عبارة"تيليكوم صربيا"وهو مبنى شركة الهاتف الخليوي الصربي. أما عناصر ميليشيا"حراس الجسر"فيشير بإصبعه الى مدنيين يقفون أمام متاجر ومقاه على الجانب الآخر من الجسر حاسماً بأنهم من عناصر تلك الميليشيات. ومدينة ميتروفيتسا تلك التي يقسمها نهر ايبري الى قسمين الباني وصربي يبلغ عدد سكانها نحو مئة ألف نسمة، 75 في المئة منهم من الألبان من بينهم نحو 2000 يعيشون في الجزء الشمالي الصربي من المدينة، والباقون من الصرب. ويؤكد رئيس بلدية القسم الألباني من المدينة بيرم رجبي ان عدد الصرب فيها كان قبل الحرب في عام 1999 نحو 13 ألفاً لكنه ارتفع الى نحو 27 ألفاً بعد ان نزحت الى المدينة عائلات صربية من مختلف أنحاء كوسوفو، ويشير رجبي الى ان من بين النازحين مئآت من عناصر الميليشيات الصربية التي اشتركت في المجازر التي ارتكبت بحق الألبان، وان هؤلاء هم الذين يثيرون المشاكل ويهددون السكان الصرب الأصليين في حال تواصلوا مع ابناء المدينة من الألبان. التقينا رجبي في مقهى قريب من النهر على الجانب الجنوبي من ميروفيتسا. ورجبي هو أحد القادة السابقين لجيش تحرير كوسوفو وهو طبيب ونائب لرئيس الحزب الديموقراطي الكوسوفي الذي يتزعمه رئيس الحكومة هاشم ثاتشي. ورجبي يعيش في جيب الباني صغير داخل المنطقة الشمالية الصربية من المدينة، وهو يذهب الى منزله عبر جسر فرعي هش أنشئ على ما يبدو لتأمين وصول الألبان في شمال المدينة الى منازلهم من دون العبور في المناطق الصربية. جيب الباني داخل الجيب الصربي في كوسوفو! معادلة تختصر معادلات بلقانية كثيرة. ورجبي أصر على عبورنا جسره الصغير الذي تحرسه شرطة كوسوفية الى جانب قوات دولية. وفي سيارته الحديثة ذات الدفع الرباعي والتي يقودها من دون مرافقين في منطقة"تحفها مخاطر"، هو القائد السابق في جيش تحرير كوسوفو، ينطلق عابراً الجسر ومتجهاً الى تلة صغيرة مشرفة على الجانب الألباني الذي يرأس مجلس بلديته. ومن أمام منزله يقول:"من هنا كانت القوات الصربية تقصف المناطق الألبانية. منزلي الذي دمروه كان مربضاً لمدفعيتهم". ويضيف:" اليوم نريد ان نعيش معهم لكن الحكومة الصربية تمنعهم من ذلك. دفعت رواتب مرتفعة لعناصر الشرطة الكوسوفية من الصرب ودفعتهم للاستقالة، وأقفلت كل المؤسسات الحكومية التابعة لنا في الجانب الشمالي من المدينة". وفي الجانب الشمالي من ميتروفيتسا مجلس بلدي مختلف انتخبه المواطنون الصرب في اليوم الذي حددته حكومة صربيا للانتخابات المحلية فيها. وثمة مجلس صربي آخر يتولى مهمات عامة في شمال المدينة يدعى المجلس القومي الصربي، ولكن يبدو ان الأممالمتحدة، وفي إطار تعاطيها مع الأمر الواقع للمدينة، تتولى أيضاً العمل التنسيقي بين طرفي ميتروفيتسا"في المسائل القليلة التي تحتاج تنسيقاً". أثناء تجوالك على طرفي جسر نهر ايبري تشعر بأن الرواية لن تكتمل من دون الاستماع الى النسخة الصربية منها، لكن الأمر يبدو صعباً، بل مستحيلاً في ظل معرفة الواقفين على ضفة الجسر من الجهة الصربية انك قادم من الطرف الألباني. لن يمنعك أحد من التوجه الى الأحياء الداخلية، لكنك تشعر ان الصرب كلهم عرفوا بحقيقة قدومك من ميتروفيتسا الألبانية، فاليقظة القومية مرتسمة على الوجوه وتدفعك الى التفكير بملامحك أنت العابر للحظات من بينهم. وأنت الآن في طرف لسان الجيب الصربي في كوسوفو والذي يمتد كلما اتجهت الى الحدود مع صربيا ليشمل ثلاث مدن ينعدم فيها الوجود الألباني وهي بالإضافة الى شمالي ميتروفيتسا مدينة زيتشان ومدينة ليبوسافيتش. والمدن الثلاث هي مراكز محافظات مرشحة لأن يكون لها وضع شبه فيديرالي في الدولة الكوسوفية في ظل الإصرار الصربي على رفض"الاستقلال المشروط لكوسوفو"، في حين تشير تقديرات صربية الى ان سكان هذه المحافظات بصدد إجراء استفتاء على ضمها الى صربيا في حال اعترف مجلس الأمن الدولي بالاستقلال. وربما كانت تجربة ميتروفيتسا نموذجاً لاحتمالات التعايش الصعب بين الألبان والصرب في دولة كوسوفو، او ربما عن استحالته، فالمسألة بالنسبة الى صرب كوسوفو لا ترتبط بحقوق في الدولة ذات الاستقلال المشروط إنما في تحولهم من أكثرية في الدولة الصربية الى أقلية في كوسوفو لا تتجاوز الخمسة في المئة من عدد السكان، ولعل المجتمع الدولي الذي يشرف على استقلال الدولة الجديدة يدرك هذه الحقيقة ويحاول عبر إشرافه على الاستقلال ان يؤكد من خلال الدستور ان"كوسوفو دولة لمواطنيها لا لقومياتها"وهي ايضاً"ليست دولة بطابع ديني"ثم ان احتمالات التحاقها بپ"البانيا الكبرى"منعدمة في ظل تضمين الدستور بنوداً تتعلق بذلك، مضافة اليها ضمانات باستمرار الإشراف على الالتزام بهذه البنود. لكن كل هذه الضمانات لا قيمة لها في البلقان الذي يدرك أهله ثقل الإرث القومي الذي يجثم على الصدور. فعبارة"كوسوفو دولة لمواطنيها لا لقومياتها"يعوزها اكثر من دستور في البلقان حتى تتحقق، خصوصاً ان ما سبقها في كوسوفو كان حرباً قومية مدمرة، لا صيغاً من التعاون انتجت اتحاداً إرادياً بين الأمم والقوميات. ميتروفيتسا اختبار سيِّئ لإمكان التعايش بين الصرب والألبان في كوسوفو، وهي الى جانب طابعها العمراني العثماني في الجانب الألباني منها، ثمة ملامح يوغوسلافية اكيدة في مبانيها المنتشرة في الجانب الشمالي من النهر. وعدم الانسجام بين الملمحين العمرانيين ليس ناجماً فقط عن تنافر هندسي، إنما تغذيه مشاعر راهنة تتصارع على طرفي النهر. في اسواق ميتروفيتسا وفي إحيائها يسيطر عليك انقسام المدينة على نحو لم تعهده. فالطبيب الفلسطيني المقيم فيها منذ العهد اليوغوسلافي يقيم في الجهة الألبانية، أي في منطقة نفوذ الحكومة الكوسوفية، ولكنه وصل اليها من بلغراد مرسلاً في سبعينات القرن الفائت من أحد التنظيمات الفلسطينية للتخصص في الطب. والطبيب هذا الذي قدم من بلغراد صارت بريشتينا عاصمته بفعل الاستقلال الجديد. تثير بك حكاية الطبيب الغريب قدراً من الحيرة بمصائر العابرين في البلقان. في أسواق الجانب الألباني من المدينة يتكثف الجانب الشرقي والإسلامي من هويتها. مقاه تركية ومتاجر يرتدي أصحابها قبعات البانية، ويوم السوق تقليد مستورد من الشرق الإسلامي كما قال التاجر الذي باعنا قبعات فرنسية قال ان الجيل اليوغوسلافي من أبناء المدينة اعتمدها بديلاً من تلك الألبانية، لكنه لم ينجح بتكريسها زياً دائماً. لكن ميتروفيتسا ليست الاختبار الوحيد لصعوبة التعايش الألباني الصربي في كوسوفو، فالصرب في كوسوفو وعلى رغم ان اعدادهم لا تتجاوز الخمسة في المئة من عدد السكان اليوم الا ان قراهم وقصباتهم وكنائسهم منتشرة في معظم أنحاء كوسوفو. صحيح ان اعدادهم تلقصت بفعل النزوح الى صربيا الذي رافق انتهاء الحرب في عام 2000، ثم عاد وتقلص اكثر بعد إعلان"الاستقلال المشروط"، لكن أعداداً كبيرة منهم انتقلت للإقامة في"جزر صربية"شبه مقفلة أمام الألبان ومحمية بالقوات الدولية التابعة للأمم المتحدة. وفي هذه البلدات الجزر يعيش الصرب في شبه حكم ذاتي برعاية دولية. بلدة غراتشانيتسا واحدة من الجزر الصربية في قلب كوسوفو، فهي تبعد عن العاصمة بريشتينا نحو خمسة كيلومترات وفيها مقر المطرانية الأرثوذكسية في كوسوفو حيث يقيم المطران ارتيميا الأول. يبدو واضحاً ان اكتظاظ البلدة ناجم عن لجوء مواطنين صرب من مختلف محافظة بريشتينا الى البلدة. العلم الصربي يرتفع فوق المؤسسات الرسمية، في حين ارتفعت فوق السور المحكم والكبير المقام حول مبنى المطرانية اسلاك شائكة توحي بأننا حيال موقع عسكري. في غراتشاننيتسا يتداول المواطنون الدينار الصربي الى جانب اليورو طبعاً، ومعظمهم، وعلى رغم صغر بلدتهم، يحاولون الاكتفاء بحاجاتهم وعدم الذهاب الى بريشتينا القريبة منهم. فالشاب الواقف أمام محل لبيع القهوة قال:"اذهب الى بريشتينا إذا احتجت شيئاً من هناك، لكنني لم احتج شيئاً منها منذ اكثر من 8 سنوات". فيتيم مترجمنا الألباني يشير الى لوحات السيارات ويقول انهم ما زالوا يعتمدون هنا اللوحات الصربية. أما على مدخل المطرانية الذي لم يتجرأ فيتيم على الوقوف أمامه فقد وقف جنديان من القوة السويدية وراحا يضحكان ويتحدثان مع شابة عابرة. المشهد لم يوح بقدر من التوتر تفترضه تحفظات فيتيم، ووافق الجنديان بسهولة على التقاط صورة لهما أمام المطرانية. الفشل الوحيد الذي يمكن رصده في التجربة الكوسوفية يتمثل في قضية صرب كوسوفو، ولكن وان كانت مسؤولية هذا الفشل لا تتحملها النخبة الحاكمة في الدولة ذات الاستقلال المشروط، من الواضح ان تبعات هذا الفشل ستنعكس عليها. فالصرب اليوم لا يشكلون اكثر من 5 في المئة من عدد السكان، لكن المجتمع الدولي يريد للدولة الجديدة ان تكون اختباراً ناجحاً لتعايش الأقليات. اذاً لهذه الأقلية حق نقض في التجربة الجديدة يفوق حجمها. واضح ان الوجود"السلبي"لصرب كوسوفو في الدولة الجديدة له وجوهه الكثيرة التي تتراوح بين الاشتراط ان تكون الشرطة الكوسوفية بقيادة ضباط من الأممالمتحدة حتى ينخرط بها أفراد من الصرب، وبين عدم التجاوب مع دعوات عودة اللاجئين من صربيا. لكن ليس المزاج السلبي حيال التجربة لوحده هو ما يحرك الصرب في كوسوفو، فالحرب التي دارت بين الجماعتين والتي كان فيها الألبان ضحايا نظام ميلوشيفيتش لم تعقبها مصالحة تبدو ضرورية لالتئام التجربة الجديدة. المجتمع الدولي كافأ الضحية بأن دفع باتجاه دولة تنصفها. من المفترض أن يشكل ذلك فرصة لتجاوز الجراح. النخبة الألبانية تجيب عن سؤال من هذا النوع، بأن النظام الصربي الذي خلف نظام ميلوشيفيتش، ومن المفترض ان يكون قد قطع مع عهده، لم يقدم اعتذاراً عن ما اقدم عليه سلفه من مجازر بحق الألبان في كوسوفو. وخطوة كهذه تساعد على المصالحة الداخلية في كوسوفو. هذا الكلام، على رغم منطقيته، لا يأخذ في الاعتبار حقيقة ان الدولة الجديدة يحتاج تحصينها الى تنازلات غالباً ما تقدمها الدول الصغيرة الى جاراتها الكبرى، ثم انه لا يستبطن رغبة في التمييز بين صربپ"هم"وصربپ"نا"، وهذا الأمر حاجة لكوسوفو ويجب اختراعه في حال لم يكن صحيحاً.