عندما تلجأ الإدارة الأميركية، أكثر من مرّةٍ، إلى التدخل لإنقاذ اقتصادها الوطني، تارةً بإطلاق قوارب نجاةٍ للمؤسسات المالية الكبرى، وطوراً ببرمجة خططٍ إنقاذية لتعويم الاقتصاد، فذلك يعني أنها، في فترةٍ ما، ولأسبابٍ غير معلنة، تخلّت عن مهمتها الأساسية في حماية اقتصادها، تاركةً المصارف الاستثمارية تتوسع في ديونها، وأسواق المال تحت وطأة جنون المضاربات، بدلاً من أن تسعى إلى تنظيم الأسواق وتضبط أعمال المؤسسات المصرفية الكبرى. فقبل شهرين، 26 تموز/يوليو الماضي أقر الكونغرس الأميركي قانوناً بإنشاء صندوق بقيمة 300 بليون دولار يوفّر قروضاً ميّسرة إلى المواطنين، يسددون بها سندات القروض العقارية. وراهناً اقترحت الإدارة الأميركية برنامجاً بقيمة 700 بليون دولار لإنقاذ"وول ستريت". وبين البرنامجين تملّكت الحكومة الأميركية عملاقين في قطاع الرهون العقارية"فاني ماي"و"فريدي ماك"، وسيطرت على أكبر شركة تأمين في العالم"أميركان انترناشونال غروب"، وحصلت اندماجات في نطاق القطاع الخاص، فاشترى"بنك أوف أميركا"مصرف"ميريل لينش"ب50 بليون دولار، وتملّك مصرف"جي بي مورغان"بنك"واشنطن ميوتشوال"، فيما هبطت أسهم"غولدمان ساكس"و"مورغان ستانلي"وأعلن"ليمان براذرز"نهايته بإشهار إفلاسه. تجاه هذه الانهيارات في المؤسسات المالية، وما تلازم معها من خسائر فادحة في البورصات العالمية، وفي مقدمها"وول ستريت"، يأتي برنامج الإنقاذ الأميركي، طوق النجاة، وسط خضّم الأزمات المتلاحقة والمتلازمة، ما يشير حتماً إلى تهاون سابقٍ كبير في السياسة المالية تجاه المصارف الأميركية، وتعاطي البورصات الأميركية ذات المستوى العالمي، بأدوات مالٍ غير مليئة. ونتيجةً لتتبع بذور الأزمة العقارية في الولاياتالمتحدة، تبرز الثغرات في استغلال المصارف المُقْرِضة أدوات مالٍ غير مضمونة. فالقروض العقارية بفوائد متدنية أوجدت سوقاً ناشطة للعقارات، وزادت في طلبها، ما رفع قيمة المنازل وحوّلها إلى أصولٍ مرهونة قابلة لإضافة ديونٍ أخرى، بهدف تحقيق رفاهية الأسر المالكة للمنازل. ومع توسع الإقراض العقاري، وتالياً الإقراض لشراء سيارات والقيام بنزهات وترميم المنازل والأثاث الفخم... لجأت المصارف إلى إصدار سنداتٍ في مقابل رهونها العقارية وبيعها من مستثمرين عالميين، لقاء عوائد، ما دفع المستثمرين إلى بيعها أو رهنها لدى صناديق استثمار أو تحوّط لشراء مزيدٍ من السندات العقارية ذاتها، في حينٍ أن السندات ذاتها، ناتجة أيضاً من قروض عقارية أو للسلع الكمالية المعمّرة مثل السيارات. وتراكمت الأخطاء. الخطأ الأول نتج من التوسع في الإقراض لقاء فوائد ترتبط بالمستويات التي يقرها الاحتياط الفيديرالي، وهذه ارتفعت من واحد في المئة، لدى عقد القرض العقاري، إلى 4.5 في المئة بداية الأزمة العام الماضي. وتمثّل الخطأ الثاني في إغراء المقترض بالتسهيلات المصرفية من جهة، والمفخّخة من جهة ثانية. فالأقساط على مدى السنوات الثلاث الأولى تنحصر فقط، بتسديد الفوائد على القرض، ومع ارتفاع الفائدة المتحركة عجز قسم من المقترضين عن سداد الأقساط المترتبة، ما فرض عليهم غرامات مالية عالية فاقمت عجزهم عن السداد. ومثّل الالتباسُ في الأصول الضامنة للقرض أو للسندات، الخطأَ الثالث، فالمصارف المقرضة تعتبر أن المنازل المرهونة هي ضمانة لقروضها، ومالك السندات العقارية يفترضها ملكه أيضاً. وعندما أوجبت الأنظمةُ التأمينَ على السندات العقارية، تحمّلت شركات التأمين الكبرى عبءَ هذه السندات، التي اعتبرت، إلى حدٍّ بعيد، منيعةً على الانهيار. الأمور كلّها كانت رهناً بحال المقترض الأساس، ومدى ملاءته المالية للوفاء بالمتوجبات، وعندما عجز عن السداد، زاد ثقلُ الدين عليه وتحوّلت السندات إلى عبءٍ، وصارت سندات رديئة تسببت بانهيار المصارف المقرضة، لحاجتها إلى سيولة، وأصابت صناديق التحوط والمستثمرين بخسائر، وتالياً شركات التأمين على السندات العقارية. وفي المحصلة تساهلت المصارف كثيراً بحيث باتت القروض لقاء رهن البيت الواحد، توازي 30 ضعفاً قيمة البيت. وفي"نيوزويك"، يعتبر فريد زكريا، ان"معدّل ديون الشركات إلى رأس مالها السهمي هو 35 إلى واحد". لا بد ان تنهي الأزمةُ الخلافات في شأن إنقاذ الاقتصاد. لكن قبل كل شيء، يتوجب على إدارةٍ مثل الإدارة الأميركية أن تنظم العمل المصرفي أولاً، وأسواق المال، حيث قادت المنافسة الهوجاء الاقتصاد العالمي إلى الانهيار وتهدده بالركود فالشلل. علماً أن المؤسسات الأميركية ليست كلها متضرّرة، ولا النشاطاتُ الاقتصادية جميعها خاسرة. وتقويم الاقتصاد يبدأ بتلافي أخطاء الماضي. فالحرية الاقتصادية لا تعني الفوضى.