كثيرة هي الرسائل التي تصلني من وراء القضبان، كثيرة هي النصوص المكتوبة بحبر الغضب والأمل، المفعمة بإرادة صلبة في مواجهة السجّان الاسرائيلي اللئيم الذي يفلح في اعتقال الجسد لكن هيهات له اعتقال الروح الحرة والأفكار المحلِّقة والأحلام التي تتخطى الجدران والقضبان الحديد وتصير قصائد أو رسومات أو أشكالاً متنوعة من الإبداعات التي يستعين بها الأسرى على الوقت الكسول والسجان الظالم المتعسف. في العديد من النصوص والقصائد الآتية من وراء القضبان وعتم الزنازين نتعرف الى طاقات شعرية هائلة ومخيلات خصبة وإلمام فعلي بشروط الكتابة الشعرية ومتابعة عميقة لما يدور في الميدان الأدبي الذي غالباً ما يبدو مشغولاً بقضايا كثيرة ليس من ضمنها للأسف قضية أحد عشر ألف أسير يقبعون في المعتقلات الاسرائيلية ويُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية على أرضهم وفي وطنهم. يبدو"شعر المعتقل"الذي يصلنا على هيئة رسائل مُهربة من وراء القضبان شعراً مختلفاً باختلاف شعرائه وباختلاف التجربة المريرة التي يخوضونها في صراعهم اليومي مع عدو لا يرحم ولا يرأف، ومع عالم خارجي يواصل حياته كأن شيئاً لم يكن، ومع وقت يمر ثقيلاً حين يُفرّغ من هواء الحرية، ومع إعلام يحوّل آلاف البشر القابعين في المعتقلات النازية الجديدة الى مجرد"عدد"تتناقله الصحف والشاشات بين فينة وأخرى قبل أن تتابع بث برامجها المعتادة. فكلُّ شيء بات في بلادنا معتاداً بما ذلك الذلّ والهوان والخنوع، والخضوع لمشيئة السجّان الذي"يتكرم"أحياناً بإطلاق بضعة أسرى ممن انتهت مدد محكوميتهم الباطلة. بين يدي مجموعة شعرية تصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم، ناشرون في بيروت للأسير باسم الخندقجي اعتُقِل بتاريخ 2/11/2004 تمثل نموذجاً مضيئاً لشعر المعتقل، وتؤكد الى جانب إبداعات أخرى، أن هؤلاء المعتقلين ليسوا مجرد أرقام في لوائح الاعتقال الاسرائيلية أو أعداد في وسائل الإعلام والبيانات الرسمية الجافة، انهم بشرٌ من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس، يتمسكون بالأمل ويربونه كما يربي القرويون غرسات الورد عند مداخل البيوت. انهم مناضلون ومبدعون، بينهم من يكتب شعراً ونثراً، ومن يرسم ويغني منادياً على الحرية، وبينهم من يبرّد لهيب الاشتياق بالصبر وبالحبر وبتخيّل مواعيد اللقاء مع الأهل والأحبة. ميزة ما يكتبه باسم أنه يجيء من وراء القضبان الحديد لكنه يتحرر منها ويتخفف من أثقالها، ويتقدم كشعر خالص نقّاه صاحبه من الخطابية والمباشرة والكليشيهات المألوفة في مثل هذه الحالات. لينفذ من سطح الشعار الى جوهر القضية بوصفها قضية إنسانية في الدرجة الأولى تستحق أن تُكتب بما يتجاوز الآني واللحظوي الى ما هو أعمق وأكثر مقدرة على البقاء والاستمرار، وهل غير الفن الحقيقي يمتلك هذه الصفات، الفن الذي قال عنه محمود درويش أنه هزم الموت. وبهذا المعنى يستطيع قارئ باسم الخندقجي القول إن الشاعر هزم السجان والشعر هزم الشعار الآني العابر لمصلحة القضية الإنسانية النبيلة، انه شعر لأجل الحياة، وكل شعر حقيقي هو حكماً لأجل الحياة، فكيف إذا كان مشبعاً بقيم الحق والخير والجمال. يصرخ باسم الخندقجي في كتابه أيتها الحياة أريد أن أكون إنساناً. ثم يقول لا أمل لي سوى الاتحاد مع العدم ذاهباً الى عمق التوحد مع الكون، ليخلص الى حتمية الخلاص بالحرية:"أنا حر". ومن يكتب مثل هذا الشعر هو حرّ بالتأكيد، ولا أقول هذا من باب الإنشاء أو العزاء، بل هو حر لأن كل جبروت الاحتلال الإسرائيلي وطاغوته غير قادر على سجن فكرة نبيلة أو صورة شعرية جميلة أو حلم مشروع بالحرية والاستقلال. مع باسم الخندقجي نستعيد صورة مشرقة بهية لنضال الشعب الفلسطيني ولمقاومته الخلاّقة التي تأخذ أشكالاً ووسائل متنوعة تنوع فلسطين نفسها حيث يمتزج دم الشهداء بحبر الشعراء ودموع الأمهات بفراشات الحرية. صحيح أنه يأتي في زمن صعب، وفي لحظة فلسطينية قاسية وموجعة، لكنه الآن بالذات يكتسب شعر المعتقل بعداً إضافياً كونه يكشف النقاب عن وجهٍ مبدعٍ لفلسطين الحرّة غداً لا مَحالة.