لا يزال مسلسل "نور" التركي، وعلى رغم مرور أسابيع على انتهاء عرضه على شاشة"أم بي سي4"يلقي بظلاله على المشهد الدرامي في الفضاء التلفزيوني العربي. حتى أن كل الترسانة الدرامية العربية بمختلف تلاوينها المصرية والسورية والخليجية التي تنهمر زخات نتاجاتها دفعة واحدة في رمضان لم تفلح في زحزحته عن عرش الصدارة. ولا شك في ان هذا المسلسل فرض تحدياً كبيراً على صناع الدراما العربية، إذ إن المشاهد يجد نفسه لا محالة أمام مقارنة بين هذا العمل الدرامي وعشرات الأعمال المكررة المستهلكة والمتشابهة غالباً، والتي تعج بها الفضائيات العربية. ولعل هذا تبدى بقوة في مسلسل"باب الحارة"في نسخته الثالثة التي يخيم عليها الافتعال والفبركة والركاكة إلى حد كبير. حتى أن"أبو غالب"بائع الحمص المتجول استحوذ على خيوط اللعبة"الدرامية"لهذا الجزء بمقالبه وألاعيبه الساذجة التي تذكرنا بمقالب"غوار الطوشة"قبل أربعين سنة، مع فارق أن غوار كان أكثر قدرة على الإقناع والإضحاك من صاحبنا أبي غالب. ولعل ما زاد العمل هشاشة وتسطيحاً هو ذاك النفخ المحموم في قيم ذكورية تقليدية متمحورة حول تقديس الزعامة والعنف والقوة والبطش في مقابل تحقير المرأة والحط من شأنها ودورها في المجتمع عبر تصويرها مجرد ميدان لممارسة قبضايات الحارة ورجالها الأشاوس طقوس تفوقهم الذكوري وضروب رجولتهم وعكيديتهم التي لا تتحقق ولا تكتمل إلا عبر الإمعان في إذلال المرأة وتحجيم وجودها وتهشيم كينونتها الإنسانية. اما أكثر ما زاد الطين بلة، فهو إقحام"البعبع"الاستعماري إياه في الحكاية بصورة غير موفقة بتاتاً، ولا تنسجم مع السياق الدرامي للعمل الذي يفترض فيه معالجة مشاكل حياتية بسيطة في"حارة الضبع"وما جاورها من حارات، وليس التصدي لمهمات كبيرة من قبيل مقاومة الاستعمار ومحاربته. فكيف لنا أن نفهم الصلة والحال هذه بين حمص"أبو غالب"وتوريد السلاح إلى فلسطين أو بين مناكفات الجارتين اللدودتين"أم بدر"و"أم عصام"ومقارعة الانتداب الفرنسي ومنازلته. وإمعاناً في النسخ والتكرار المضجر، ظهرت علينا في هذا الجزء من"باب الحارة"كي تكتمل الصورة المستنسخة بحذافيرها عن الجزءين السابقين، شخصية مماثلة لشخصية"صطيف"المتآمر في الجزء الثاني، ليتواصل على يدي المتآمر الجديد حبك الدسائس والمؤامرات في صفوف أهل الحارة التي لا تستقيم رواية أحوالها على ما يبدو إلا في ظل وجود جاسوس متربص يعمل على تعكير صفوها وبث الفرقة والشقاق بين أبنائها. من هنا يمكن تلمس أسباب النجاح المنقطع النظير للدراما التركية، خصوصاً لمسلسل"نور"الذي نجح في مخاطبة أحاسيس المشاهدين ومشاعرهم الإنسانية عبر حبكة درامية محكمة، صقلها الأداء الاحترافي العالي المستوى لغالبية شخصيات العمل. تضاف الى ذلك السوية البصرية المرتكزة على سحر الطبيعة الغنّاء في تركيا ووسامة الممثلين. وهكذا يكمن الفارق بين دراما ماضوية نوستالجية تحتفي بقيم ريفية بالية كانت سائدة في أزقة حوارينا البائسة التي يراد لنا الاحتفاء ببؤسها، بل والعمل على إحياء تلك القيم المتخلفة والافتخار بها، وبين دراما أخرى عصرية ترنو الى المستقبل وتخاطب عقل مشاهد القرن الواحد والعشرين متناغمة مع ذائقته الجمالية ومشبعة حاجاته الفنية. باختصار، نجحت الدراما التركية المدبلجة لأنها تقدم نموذجاً درامياً عصرياً يحتفي بقيم الحب والجمال والحضارة بدلاً من الضياع في زقاق حواري الألفية المنصرمة ودهاليزها المعتمة المقفرة.