مع تحول أزمة الرهن العقاري الأميركية السيئة الصيت إلى أزمة ائتمان مجهولة العواقب بدءاً من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، صدر عن وزير الخزانة الأميركي هنري بولسن، الذي انتقل قبل عامين ونيف من كرسي القيادة في"غولدمان ساكس"أكبر المصارف الاستثمارية الأميركية، إلى إدارة الشأن المالي لأكبر اقتصاد في العالم، تصريح اتسم بالجرأة والصراحة أكد فيه أن قطاع المال الأميركي"يميل"إلى التعرض لأزمة كل أربع أو خمس سنوات، لكنه يخرج منها سريعاً أقوى شكيمة وأصلب عوداً. ويحفل تاريخ قطاع المال الأميركي بأزمات كشفت عن أنيابها قبل"الكساد العظيم"في ثلاثينات القرن الماضي وبعده. وإذا كان ثمة قاسم مشترك في كل أزماته فإن الحكمة السائدة تقول إن حي المال الشهير وول ستريت في مانهاتن يعمل بمحركين لا ثالث لهما: الطمع والهلع. أما عمل"آلية الدمار"فليس من مثال أوضح من أزمة أسهم الپ"دوت كوم"، إذ جاء الطمع في أسهم شركات الانترنت الأميركية ثم تبعه الهلع ليفجر الفقاعة في بداية عام 2000 مسبباً انهياراً استمرت تداعياته حتى نهاية عام 2002، وبلغت خسائر المستثمرين في حينه 7.2 تريليون دولار. لكن أزمة الائتمان الراهنة أثبتت أنها ستكون الأبعد أثراً، إن لم تكن الأخطر أو حتى الأكثر كلفة، أقله مقارنة بالكساد العظيم الذي بدأ في نهاية العشرينات من القرن الماضي بانهيار أسواق المال وعاث فساداً في الاقتصاد الأميركي والعالمي طوال معظم الثلاثينات. ويرى الكثير من المحللين أن حي المال الأميركي سيخرج من أزمته في نهاية المطاف لكن بثوب جديد وخريطة مختلفة كلياً عن السابق. وكشفت أزمة الائتمان عن أخطر أحداثها بانهيار المصرف الاستثماري"ليمان براذرز"صباح الاثنين الماضي، إلا أن معظم المحللين يعتقد أن نهاية الأزمة ما زالت بعيدة وأن البداية لم تأت مع انفجار فقاعة الرهون العقارية العالية الأخطار في آب أغسطس 2007 إنما مع مشروع القانون الذي أصدره الكونغرس مجلس النواب الأميركي في تشرين الثاني عام 1999 والقاضي بإلغاء القيود الصارمة التي كبلت قطاع المال الأميركي منذ الكساد العظيم، وإطلاق يده للتنافس في كل أنواع الخدمات المالية، من اقراض واستثمار وتأمين. وتحرّك قطاع المال الأميركي بسرعة للاستفادة من الحرية المالية الجديدة، وإن كان حقق معظم نجاحاته ومعها مستويات عالية من الأرباح من استغلال ظروف استثنائية، لا سيما أزمة أسواق المال الناجمة عن انفجار فقاعة"دوت كوم". وكان مجلس الاحتياط الفيديرالي المصرف المركزي الأميركي تحرك للتصدي للركود الاقتصادي في عام 2001 بعد تفجير البرجين الشهيرين بخفض سعر الفائدة من 6.5 إلى واحد في المئة في أقل من 24 شهراً، ما جعل المستثمرين والمواطنين يقترضون بكثرة. لكن الظرف الأكثر أهمية الذي استغلته المؤسسات المالية الأميركية جاء من ارتفاع أسعار المساكن بمعدلات خيالية وبنسبة تراكمية ناهزت مئة في المئة بين عامي 2000 و2006، في ظل توافر سيولة مالية هائلة أخذت طريقها إلى الأدوات الاستثمارية المبتكرة التي نشطت المصارف التجارية والاستثمارية على حد سواء في إصدارها تسييلاً للرهون العقارية. ويلعب الرهن العقاري دوراً أساسياً في الخدمات المالية، إذ قفزت الثروة العقارية للأميركيين من 9.4 تريليون دولار في عام 1997 إلى نحو 20 تريليوناً في نهاية العام الماضي، ونمت الديون العقارية بوتيرة أبطأ لكنها تجاوزت 10.5 تريليون دولار. وفي الفترة ذاتها، ارتفعت الأصول المالية للأميركيين من ودائع واستثمارات ومساهمات في صناديق معاشات التقاعد، من 27.4 تريليون دولار إلى 45.4 تريليون.