انكشفت الاستثمارات العربية والأجنبية الموظفة في الولاياتالمتحدة على خسائر جسيمة لحقت بها بسبب مغامرة"وول ستريت"قبل خسائر الأسبوع الأخير، التي أحالت الرهن العقاري إلى مستنقع ما زالت مياهه الآسنة تهدد النظام المالي والاقتصاد العالميين للشهر الخامس عشر على التوالي. لكن مؤشرات أسواق المال والمؤسسات التي ترصد النشاط الاستثماري بصدقية عالية، مثل مجلس الاحتياط الفيديرالي ووزارتي الخزانة والعمل ومنظمة الاستثمار العالمي ومعهد التمويل الدولي، لم تدعْ حتى الآن مجالاً رحباً للشك في أن تحديات الاستثمار في أميركا أقوى من مكاسبه. ولم تكشف"وول ستريت"الأبعاد الحقيقية لمغامرتها، إلا مكرهةً، لتزيد بذلك مهمة الاستثمار الأجنبي تعقيداً. وقد تكون المصارف الأميركية المتعثرة، بما فيها المصارف العملاقة، وجدت في طبيعة أصول الرهن العقاري وصعوبة تقويمها، مبرراً للمماطلة في الاعتراف بورطتها. إلا أن عدم اليقين، أكبر أعداء الاستثمار وأخطرها، أحدث ارتباكاً في مراكز استثمار في العالم، وبالتأكيد وضع مديري الاستثمارات العربية والأجنبية في أميركا أمام امتحان عسير للخبرات الفذّة التي أهلتهم إلى العمل في مركز الاستثمار الأول والأكبر. وتفيد بيانات مجلس الاحتياط الفيديرالي أن مديري الاستثمار الأجنبي بنوعيه الرسمي والخاص، فوجئوا بفقاعة الرهن العقاري وانفجارها المدوي في آب أغسطس 2007، لكن الإجراءات التي اتخذوها للتحوط من نتائجها، لم تتسم بالسرعة والحسم فحسب، بل واكبت الأزمة في تصاعد أخطارها وانحسارها. وبرز عاملا السرعة والحسم بوضوح في سلسلة متتالية من القرارات اتخذها المديرون لخفض استثماراتهم الجديدة في الأصول المالية الأميركية بحدة وترحيل استثماراتهم القائمة من مراكز الخطر إلى الأصول الآمنة. وسجل حجم الأموال التي ضخها الاستثمار الأجنبي في الأصول المالية الأميركية من أذونات الخزانة وسندات الشركات وأسهمها ذروة تاريخية عشية انفجار الأزمة، إذ بلغ معدله السنوي في الفصل الثاني من 2007 نحو 2.66 تريليون دولار ما يزيد على ضعفي حاجة أميركا لتمويل عجزيها المالي والتجاري، لكنه انخفض سريعاً إلى 1.2 تريليون دولار في الفصل الثالث ثم إلى 837 بليوناً في الفصل الرابع. ومع انحسار الأخطار قليلاً في الفصل الأول من 2008 ارتفع إلى نحو 1.2 تريليون دولار فقط، ليهوي من جديد إلى 500 بليون مع تصاعد الأخطار فجأة في الفصل الثاني. وترافق إجراء تقييد معدل ضخ الاستثمارات الجديدة، مع سباق محموم على شراء أذونات الخزانة. فبعدما تخلص الاستثمار الأجنبي، وتحديداً الاستثمار الخاص، من نحو 50 بليون دولار من الأذونات في الفصل الثاني من 2007، ألجأته تطورات الأزمة إلى زيادة رصيد مقتنياته من السندات الحكومية الآمنة بأكثر من 600 بليون في الفصل الأول من 2008 وبنحو 500 بليون في الفصل الثاني، أي ما يزيد على ثلاثة أضعاف معدل الشراء السنوي في 2007. وجذبت مؤشرات الأسهم الأميركية أيضاً استثمارات أجنبية ضخمة ناهزت 350 بليوناً عندما استعادت قوتها في الفصل الأخير من العام الماضي وبداية العام الجاري. لكن إجراءات التحوط لم تدرأ الأخطار كلها، إذ أفاد مجلس الاحتياط الفيديرالي أن خسائر الاستثمارات الأجنبية في أسواق المال الأميركية ناهزت 400 بليون دولار منذ بداية الأزمة وحتى نهاية حزيران يونيو الماضي بعدما انخفض حجمها الإجمالي من 2.826 تريليون دولار في الفصل الثالث من 2007 إلى 2.425 تريليون نهاية الفصل الثاني من هذا العام. ومع استمرار انهيار المؤشرات الأميركية قفزت هذه الخسائر إلى أكثر من تريليون دولار تجاوزت حصة الاستثمارات العربية منها حتى إقفال آخر أيلول سبتمبر الماضي، 50 بليوناً. ورفعت دول مجلس التعاون الخليجي رصيدها من الأصول الأجنبية هذا العام إلى تريليوني دولار وضخت، بحسب معهد التمويل الدولي، 530 بليوناً في أسواق الاستثمار العالمية في السنوات الخمس الأخيرة، وظفت 300 بليون منها في أميركا. وفي بيانات وزارتي الخزانة والعمل بلغت الاستثمارات العربية في الأصول المالية الأميركية 322 بليوناً عشية الأزمة المالية، شكل معظمها 308 بلايين دولار استثمارات سعودية وخليجية بينما تشكل البقية استثمارات من مصر 11 بليوناً والمغرب 1.3 بليون والأردن ولبنان وتونس. بيد أن للاستثمار تحديات ومكاسب. فقد التهمت فقاعة أسهم الإنترنت في السابق الدوت كوم ما يزيد على 7 تريليونات دولار من القيمة السوقية للأسهم الأميركية، وفي حين خسر الاستثمار الأجنبي حينئذ 18 في المئة 314 بليون دولار من ثروته السهمية، انحصرت الخسائر العربية في نسبة لا تزيد على 7.5 في المئة 3.2 بليون دولار. ولم تبدأ الأزمة المالية الحالية إلا بعد أن استعادت"وول ستريت"خسائرها كلها وارتفعت الاستثمارات العربية في الأسهم الأميركية من 40 بليوناً منتصف 2002 إلى 141 بليوناً منتصف 2007.