الحوار الوطني اللبناني الذي يجري برعاية الرئيس ميشال سليمان لا ينطلق من فراغ ولا يبدأ من نقطة الصفر. فقادة الاطراف المشتركة في الحوار اليوم سبق ان اعلنوا مواقفهم في الشارع اللبناني وعلى شاشات التلفزيون وفي جلسات الحوار التي نظمها الرئيس بري، وفي اللقاءات الحوارية التي نظمت في فرنسا وسويسرا واسبانيا ووفي مؤتمر قطر. وهؤلاء الزعماء اللبنانيون كرروا مواقفهم يوم وضعوا البيان الوزاري. بيد انه هناك اسباب للاعتقاد ان الجولات الحوارية المقبلة سوف تكون اكثر جدية. فهذه الجولات لا تنعقد في كنف الدولة فحسب، وانما في خضم سلسلة من المصالحات الوطنية التي تشمل الممثلين في الحوار. هذه المصالحات جديرة بان تخلق مناخا حواريا مناسبا. والمناخ الحواري المناسب هو الذي يسمح بتصويب المواقف وتصحيح الآراء والخوض في اكثر القضايا حساسية وتعقيدا. وعندما يبحث المشتركون في الحوار عن مثل هذه الآراء والموقف فامامهم الكثير منها في"وثيقة الوفاق الوطني"التى خرجت الى الوجود في المؤتمر البرلماني في الطائف. الوثيقة حملت معها نتاج الخبرة الميثاقية اللبنانية، وتبلورت وخرجت الى الوجود في ظرف تاريخي محدد ووضعت اساسا لتطوير الدولة اللبنانية. كان المفروض ان تكون هذه الوثيقة مرشدا ودليل عمل للنخبة السياسية اللبنانية ولكنها، ولاسباب معروفة، اهملت. هذا الاهمال ساهم في وصول لبنان الى ازمته الراهنة. اذا اراد المتحاورون اليوم الخروج من هذه الازمة فانه يستحسن بهم ان يبدأوا بانهاء هذا الاهمال، وان يعودوا الى الوثيقة لكي يدرسوها من جديد، فعبر مراجعتها يمكنهم ان يضعوا اليد على العديد من مواطن العجز والقصور في النظام السياسي اللبناني. العودة الى الوثيقة سوف تؤكد اهمية العديد من الاستنتاجات التي توصل اليها واضعوها والكثير من المبادئ التي تضمنتها. انها سوف تؤكد ان تجديد الوثيقة وتطويرها هو مدخل ملائم الى تحقيق مصالحة وطنية جديدة والى توفير ظروف تسمح بالنهوض بالنظام السياسي اللبناني."الطائف 1" والدستور الذي انبثق عنها وفرا للبنان ممرا آمنا للعبور من حروب واهوال الثمانينات الى سلام التسعينات."الطائف 2"قد تؤمن للبنان فترة سماح يرتاح خلالها المتحاربون المتعبون فيفسحوا في المجال امام الاصلاحيين لكي يجمعوا صفوفهم وينموا طاقاتهم ويحققوا اهدافهم. هذا الخيار يتطلب مواقف سليمة تجاه القضايا الخلافية التالية: اولا، مسألة النظام السياسي في لبنان. فهناك شبه اجماع بين اللبنانيين على ضرورة تجديد النظام باتجاه الحد من تأثير الصراعات الطائفية والمذهبية على حاضره ومستقبله. حتى الاحزاب والمؤسسات الدينية اللبنانية باتت تخشى من تفاقم هذه الصراعات وآثارها المدمرة على المجتمع وعلى الدولة. واذا كانت ظاهرة العصبيات الطائفية والمذهبية قد وصلت الى ذراها اليوم، فان خطرها لم يكن غائبا لحظة عن اللبنانيين. تعبيرا عن هذا الوعي، دعت"الطائف 1"الى"الغاء الطائفية السياسية"والى تشكيل هيئة وطنية لالغاء الطائفية. ولكن في اي حدود والى اي مدى؟ هل كان الهدف الغاء الطائفية السياسية فحسب ام الغاء الطائفية بسائر تجلياتها؟ الفرق بين الاثنين كبير وكبير جدا. الغاء الطائفية السياسية يعني الغاء قد لا يتجاوز المستوى الرسمي والبنيان الحكومي، اما الغاء الطائفية فيعني الالغاء على المستويين الرسمي والاهلي."اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية"، كما ينص الدستور اللبناني قد لا يكون عسير المنال. اما الغاء الطائفية على الصعيد الاهلي، فانه اشد استعصاء من الاول، وهو يتطلب نمطا مختلفا من الهندسة المجتمعية ونظرة اعمق الى المجتمع اللبناني والى التجربة اللبنانية. ان مقاربة هذه المسألة تحتاج الى جهد قد يتجاوز فرقاء الحوار الوطني المحكومين بافق سياسي مقنن والموزعين بين طاولة الحوار وخريطة الانتخابات. والعمل على الغاء الطائفية على مستوى المجتمع سوف يصطدم بصعوبات كبيرة، وقد يقع في مطبات وعرة. فمن السهل ان يخطو المرء خطوات تهدف في الجوهر الى الغاء الطائفية، ولكنها تبدو في الشكل وعلى السطح وكانها تستهدف الطوائف والحرمات والمقدسات. ومن السهل عندها ان استنفار كل مستودعات التعصب الديني والطائفي والمذهبي ضد اي برنامج اصلاحي يرمي الى الغاء الطائفية او الى الحد من آثارها السلبية. تجنبا لمثل هذا المنزلق، فانه من الضروري التفريق الصارم بين الموقف من الطائفية، وهي معضلة وطنية وعائق امام التقدم وامام تحقيق الحياة الانسانية الكريمة، هذا من جهة، وبين التنوع الثقافي والديني والمجتمعي. التفريق بين الطائفية والتنوع ليس صعبا اذا ما تذكرنا انه هناك فرق مهم بين نزوع الى النطق باسم جماعة بشرية معينة والعمل على تحسين اوضاعها، ونزعة ترى خلاصها في مقاتلة الآخرين وكراهيتهم والكيد لهم. ثانيا، المسألة الوطنية. هناك اجماع بين اللبنانيين على التمسك بالسيادة الوطنية وعلى ضرورة تحصينها وتوفير اسباب ووسائل الدفاع عنها."الطائف 1"اكد على ثلاثة وسائل وشروط لحماية وصيانة السيادة الوطنية: الشرط الاول يتحقق حينما"تتحرر الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي"بحيث"تبسط الدولة اللبنانية سلطتها الكاملة على كامل الاراضي اللبنانية وبواسط قواها الذاتية". الشرط الثاني يتحقق عندما"يجري توحيد واعادة القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوان الاسرائيلي"، اما الشرط الثالث فيتحقق، كما يقول الطائف، عندما تقوم"الدولة القوية القادرة المبنية على اساس الوفاق الوطني". البعض يعتقد ان انتهاء الاحتلال الاسرائيلي والهزائم القاسية التي تعرضت اليها اسرائيل ازاحت التحدي الاسرائيلي عن كاهل لبنان واللبنانيين. استطرادا يجد هؤلاء ان لبنان لم يعد في حاجة الى مستوى عال من الاستعداد العسكري والى توجيه قسم كبير من طاقاته البشرية والمادية لحماية سيادته واستقلاله. ما يقوله هؤلاء فيه بعض الصواب اذ الخسائر التي اصيبت بها اسرائيل في لبنان جعلت الاسرائيليين يعيدون النظر في سياستهم تجاهه ويترددون في دخول اراضيه. بيد ان هذا العامل لا يعني تراجعا نهائيا للتحدي الاسرائيلي الذي يهدد سيادة لبنان. هذا التحدي لا يتمثل في احتلال الاسرائيليين لمزارع شبعا فحسب ولكنه يكمن اساسا في نظرة اسرائيل الى الدول والاراضي المحيطة بها"كمدى حيوي"لتزويد الاسرائيليين بما يحتاجون اليه لضمان امنهم وسلامتهم. في هذا النطاق يمكن اعتبار مشاريع اسرائيل الرامية الى الحصول على مياه لبنان مؤشرا على نظرتها الى لبنان والى سيادته على اراضيه وثرواته الطبيعية. ولقد سبق الاهتمام قيام الكيان العبري، وتدل مراسلات بين زعيم الوكالة اليهودية وايزمان وبعض مسؤولي الادارة الانتدابية الفرنسية في لبنان وسورية على ان الوكالة اليهودية كانت تلح على السيطرة المباشرة على مياه جنوبلبنان وليس فقط على الحصول على هذه المياه. هذه الفكرة قد لا تكون قابلة للتطبيق اليوم، ولكن اذا تفاقمت ازمة المياه فان ضمان حصول الاسرائيليين، وبالقوة اذا لزم الامر سوف يؤثر بكل تأكيد على السياسة الاسرائيلية تجاه لبنان وتجاه سيادة لبنان على اراضيه وثروته الطبيعية من المياه.هذا الاحتمال سوف يؤدي، كما توقع مائير بن مائير، الذي عمل كمسؤول عن شؤون المياه في اسرائيل المقرب الى آرييل شارون،خلال التسعينات، الى حروب متعددة الجبهات تخوضها اسرائيل في الشمال، ومنها على الارجح حرب ضد لبنان البلد الامثل لتزويد الاسرائيليين بما يحتاجونه الى المياه. الحوار بين الزعماء اللبنانيين يكون وطنيا عندما يتطرق الى مثل هذه القضية ويعالجها ليس من زاوية التفكير في مصير سلاح المقاومة فحسب، ولكن من زاوية الاخذ بما جاء في "الطائف 1"حول اعداد القوات المسلحة اللبنانية حتى تكون قادرة على مواجهة التحدي الاسرائيلي ايضا. ثالثا، المسألة الاجتماعية. ولقد اتى"الطائف 1"على هذه المسألة حينما دعا الى انشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية. الا ان الاهتمام بهذه المسألة كان سريعا ومبتسرا، فمن الضروري ان يعطي"الطائف 2"هذه المسألة المزيد من الاهتمام فيعزز صلاحيات المجلس خاصة لجهة وضع استراتيجية متوازنة وبعيدة المدى للتنمية. ان الاوضاع التي يمر بها لبنان والمنطقة تحتم وضع مثل هذه الاستراتيجية، فمشاكل المديونية وارتفاع الاسعار والبطالة تجهض المحاولات الرامية الى النهوض بالاوضاع العامة في لبنان وتفتح الباب امام صراعات اجتماعية حادة ومتفجرة. وكل ذلك يدفع بلبنان الى قلب دوامة مؤلمة من التدهور الامني فالاجتماعي. قد تكون الاختلافات قوية بين الزعماء اللبنانيين حول هذه المسائل والقضايا، فاذا لم يتفقوا عليها ولم يتمكنوا من الحفاظ على الائتلاف الحكومي الذي يجتمع كتلهم. عندها لا يبقى لدى اللبنانيين الا مطالبتهم بالحفاظ على ما تبقى من من النظام الديموقراطي آملين ان تنمو في ظله قوى جديدة تخرج لبنان من وضعه الراهن وتقوده الى المستقبل الذي يستحقه وليس الى الواقع المفروض عليه. * كاتب لبناني.