تتجه الدراسات القرآنية الحديثة في الغرب نحو الدراسات الأنثروبولوجية، والمقلق في الأمر أن هذه الدراسات تزايدت بدواعي الظروف السياسية العالمية، وأعني تحديداً مناخ ما سمي ب"الإرهاب"و"الأصولية الإسلامية"، واتجهت في العموم لإثبات أن العنف ظاهرة أصيلة في بنية الخطاب القرآني، ومهما تدثرت بأوشحة العلم تبقى الدوافع السياسية الأيديولوجية ظاهرة للعيان من دون كثير جهد، ولا نذهب بعيداً عندما نقول إن كثيراً من هذه الدراسات لا يختلف عن رؤية البرلماني الهولندي في فيلمه الوثائقي البائس"الفتنة"إلا بمزاعم الآلة العلمية وألبسة المعرفة الحيادية. يزداد قلقنا ونحن نرى محاولات موازية تصدر بالدوافع نفسها ومن جهات مشابهة للغاية، وتنفي عن القرآن كل ما يتعلق بالعنف والجهاد، وحقيقة الأمر أن هذا العمل متلبس بالعلم ليس إلا محاولة لمحاربة ما يوصف بأنه"العنف الإسلامي"وأفكار"الجهاد"، الأمر - كما أشرت من قبل - هو الجمع بين الشيء ونقيضه باسم المعرفة، والمعرفة والعلم في الحالين مجرد مظاليم! ثمة محاولات قديمة تجمع البحث الإنثروبولوجي بالبحث اللساني، وهذه المحاولات التي تتسم بالعلمية إلى حد كبير، استمرت إلى اليوم ولكن على نحو خجول، وكان الفضل للدراسات اللسانية أنها عملت على إضفاء العلمية على البحوث الانثربولوجية، وتأتي في مقدم هذه البحوث دراسة توشيهيكو إيزوتسو"المفاهيم الدينية الأخلاقية في القرآن"1958 و"الله والإنسان في القرآن: درسات في دلاليات التصور القرآني للعالم"1963. وتعتبر دراسة دانيال ماديغان"صورة القرآن عن نفسه"2000 شكلاً من أشكال دمج المعرفة اللسانية بالأنثروبولوجيا، لكن دراسة ماديغان تبدو كما لو أنها تحايل على البحث اللساني من أجل الوصول إلى تصورات أيديولوجية مدعومة بالأنثربولوجيا تتضخم فيها المركزية الغربية على نحو بارز، إضافة إلى المقولات الاستشراقية الكلاسيكية. بالتأكيد لا تدخل دراستا توشيهيكو إيزوتسو الدلاليتان في القرآن في إطار مسمى مفهوم التفسير، شأنهما شأن دراسات التفسير الموضوعي وإلى حد ما المنهح البياني التفسيري، فالمقصود هو كشف المفاهيم والتصورات الكبرى وليس فهم النصوص وحسب، ف"فعلم الدلالة القرآني يعالج - بشكل أساسي - مسألة عالم الموجودات المكون، ومن وجهة نظر النص المقدس" من خلال منظومة المفاهيم التي يؤسس لها ذلك النص. وكي يمكن تحقيق هذا الغرض، يتعرض توشيهيكو للمصطلحات القرآنية المفتاحية في التاريخ قبل الإسلام، فهذا الذي يعنيه بالقدر الذي له أثر على تشكيل المعاني الأساسية للكلمات، والتطور التاريخي للمعاني في ما بعد التصور القرآني ليس موضع اهتمامه بشكل مباشر، ذلك أن إحداث أي تغيير دلالي أو إضافة أي مفردة ذات محتوى دلالي أساسي في المنظومة الجاهلية هو ما يجعل أي منظومة جديدة قادرة على إجراء تعديلات جوهرية في تصور للعالم. الحقيقة أنه تصعب معرفة ما إذا كان إيزوتسو قد تجرأ وكسر القاعدة المعمول بها باستخدام أحد المنهجين السكوني أو التطوري في البحث الدلالي، ذلك أنهما منهجان متناقضان، لكن إيزوتسو استطاع توظيفهما بشكل خلاق عندما وظفهما لعمليتين دلاليتين مختلفتين، السكونية لفهم الخطاب، والتطورية لكشف انقلابات الخطاب الجيد ومقارنته بما سبق، ذلك أن نوعية التحولات الدلالية وحجمها في المنظومة الفاهيمية لا يمكن ملامستها من دون المقارنة. وتشكل المفردات القرآنية كلها"نظاماً مفاهيمياً واسعاً، يتألف من مجموعة أصغر من الأنظمة المفاهيمية [بنيات] المتداخلة، نسميها في علم الدلالة حقولاً دلالية"، وكل حقل دلالي هو بنية، يتضمن مجموعة بنى أخرى جزئية، تمثل كل مفردة من مفردات هذا الحقل مع ارتباطاتها الدلالية بمفردات قرآنية أخرى بنية جزئية، وبهذا يصبح الحقل الدلالي أداة رئيسية في تحليل الخطاب. وقدمت دراسات ايزوتسو اكتشافات مهمة في فهم الخطاب للقرآن، وفيما انشغل إيزوتسو في كتابه"الله والإنسان"في توضيح تفاصيل المنهج وتطبيقاته فإنه في كتابه" المفهومة الأخلاقية الدينية في القرآن"انشغل بتوضيح موسع لأصول المنهج الذي اعتمده في دراسة الخطاب القرآني. المفهوم المفتاحي - الذي نسج حوله إيزوتسو كل تفاصيل منهجه - هو المصطلح الإنثربولوجي اللساني الفلسفي المركب:"التصور اللغوي للعالم"، هذا المفهوم الذي طوره العالم اللساني الألماني ليو يسجربر Leo Weisgerber 1899- 1984 انطلاقاً من فلسفة وليم دلتاي. ونقل يسجربر نظرية ارتباط اللغة بالثقافة من حيز الدراسات الإنثربولوجية إلى الدراسات اللغوية اللسانية بعد أن تأثر بنظريات الأب المؤسس للسانيات الحديثة العالم النمسوي فرديان دي سوسير. وخلاصة النظرية أن"كلّ واحدة من كلماتنا تمثّل منظوراً خاصاً نرى فيه العالَمَ وما يسمّى"مفهوماً"ليس سوى بلورة لمثل المنظور الذاتي، أي إنّه شكلٌ ثابت تقريباً يفترضه المنظور. والمنظورُ المقصودُ هنا... اجتماعيّ، لأنّه المِلْكيّة المشتركة لجماعة كاملة، هذه الملكيّة المتحدرة من العصور السابقة بفضل التّقليد التّاريخيّ. وعلى رغم ذلك هو ذاتيٌّ بمعنى أنّه يفضي إلى شيء من الاهتمام البشريّ الإيجابيّ الذي يجعل تمثيلَنا المفهوميّ للعالم ليس نسخةً دقيقة للواقع الموضوعيّ. وعِلمُ الدّلالة Semantics هو دراسةٌ تحليليّة لمثل هذه المنظورات المتبلورة في كلمات". بأي معنى تمثل كلماتنا تصورنا عن العالم؟ الواقع المباشر للوجود، مهما يكن، لا يقدَّم لِتصوّرنا كما هو أصلاً وطبيعياً، بل من خلال موشور الرّموز المسجَّلة في معجمنا اللغويّ. موشورُ الرموز هذا ليس مجرّدَ محاكاة، مجرّد نسخة مطابقة للواقع الأصليّ، والرّموزُ لا تنطبق تماماً على أشكال الواقع، هي على الحقيقة أشكالٌ تصوّرية، بالقوّة الفذّة لها يغدو كلّ شيء شيئاً حقيقياً لإدراكنا العقليّ. الأكثرُ أحقيّةً بالملاحظة في هذا الشّأن ليس فقط أنّ كلّ جماعة لها طريقتها الخاصّة لعَزْل الأجزاء والوحدات، التي تكون تبعاً لذلك خاصّةً بها، بل أنّ هذه الأجزاء والوحدات تؤلّف في ما بينها منظومةً، ولا تكون موجودةً هكذا ببساطة من دون أي نظام، على العكس من ذلك تؤلّف كلاً معقّداً جدّاً منظَّماً تنظيماً عالياً. والطّريقةُ التي تُدمَج بها ويُرْبَط فيها بعضُها ببعض ليست أقلّ تمييزاً للجماعة من طبيعة الأجزاء نفسها. هذا الكلُّ المنظَّمُ، المميِّز لكلّ جماعة، هو الذي يسمّى المعجمَ اللغويّ. وعى إيزوتسو جيداً أن علم التطورات الحاصلة في الإنثربولوجيا الثقافية له الفضل الأول في اكتشاف الترابط المفهومي اللغوي للعالم، بل وانطلاقاً من يسجربر يتجه إل تأصيل دراسته في إطار الحقل الإنثربولوجي، فنظريّة المعنى التي تشكِّل الأساسَ للبنية الكلّية لدراسات إيزوتسو "ليست البتّة إسهاماً أصيلاً له"على حد تعبيره. بل هي مبنيّة على نمط خاصّ لعلم الدلالة طوّره وأحكمه في ألمانيا الغربية يسجربر الذي يسمّيه التّصوّر اللغويّ للعالم، الذي تتفق نظريّته في خلاصاتها الرّئيسة مع ما هو معروف عادةً اليومَ ب"اللسانيات العرقية Ethno Linguistics"،"وهي نظريّة للعلاقات بين الأنماط اللّغوية والأنماط الثقافية وضع أساسَها إدوارد سابير Edward Sapir في سنيه الأخيرة في الولاياتالمتحدة". لقد أمده البحث اللساني خصوصاً الذي أضافه يسجربر إلى النظرية الأنثربولوجية اللغوية بما يجعل تطبيق النظرية على النصوص فعالاً بدلاً من اللغة الشفاهية والأمثال والقصص والمرويات الأسطورية، وعلى رغم أن إيزوتسو لم يفصل مرجعية أدواته المنهجية، فإن دارسي اللسانيات بإمكانهم أن يكتشفوا ذلك بسهولة. إن اختيارات إيزوتسو المنهجية ترجع في الواقع إلى أصول فلسفية، فالأساس الذي دفع إيزوتسو للدراسات القرآنية كان أساساً فلسفياً بالدرجة الأولى، وطبيعة الوعي الفلسفي هي النزوع الكلي للمفاهيم وعالم المعنى، فاهتمام إيزوتسو في هذ النوع من الدراسات انحصر كلياً بالمجال التصوري العقدي والمجال التصوري الأخلاقي. وعلى العكس من المسار المنطقي للدراسات الفلسفية التي تنحدر من نطاق العلة الأولى وتداعياتها إلى الدرس الأخلاقي، ييدأ إيزوتسو رحلته من الدرس الأخلاقي القرآني إلى المجال التصوري العقدي الكلي الذي يشكل أساساً للدرس الأخلاقي، فمن المعلوم أنه ألف أولاً"بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن"عام 1959 ثم ألف تالياً كتابه"الله والإنسان"عام 1964. هكذا تتلحض المرجعية في منظور فلسفي يتقاطع مع البحث الأنثربولوجي الثقافي، ويفضي إلى أدوات منهجية لسانية. بالتأكيد لم تكن هذه العملية آلية إذ ان الانتقال من مجال إلى آخر كان عبر وسيط يسبرجر يجمع المرجعيات الثلاث ذاتها لا نعرف من خلال الدراستين كيف اكتشفه، لكن الشيء المهم الذي عمله إيزوتسو أمران: الأول، قام بتبيئة الأدوات المنهجية وركبها لتقرأ النص القرآني بوصفه خطاباً ثقافياً مغلقاً تاماً، الأمر الذي ساعده على قراءة نصية كانت أدواتها قد بدأت بالظهور أثناء تأليفه، إلا أنه لم يكتب له - على ما يبدو - الاطلاع عليها. الأمر الثاني أنه استطاع الحفاظ على النص ذاته بأقل قدر من التدخل لفرض مفاهيم مسبقة، وذلك على رغم أن نظرية ارتباط الفكر بالثقافة تفضي إلى ما يسمى بالحتمية اللغوية أي بمعنى من المعاني الانحباس في إطار مفهومي ثقافي بسبب اللغة، إذ لا تفكير إلا من خلالها! وعلى رغم أن إيزوتسو لم يفرق بشكل واضح بين ارتباط اللغة بالثقافة وارتباط اللغة بالفكر، استطاع عبر الدراسة المقارنة واكتشاف آليات التحويل في المنظومات المفاهيمية الخروج من التداعيات العنصرية والأيديولوجية لنظرية يسجربر. لقد أثبتت نتائج دراسات توشيهيكو المدهشة حقاً أن استثمار العلوم الحديثة وخصوصاً اللسانية يمكنه أن يطور الدراسات القرآنية إلى حد بعيد، والعكس مما أرادت الدراسات الأنثربولوجية الأيديولوجية الحدثية التي اعتمدت على مناهج وأدوات بحث لسانية معاصرة بهدف إثبات تقديم تصورات دينية معروفة مسبقاً باسم العلم. * كاتب سوري