يذهب بعض منظري (العلم) إلى أن هناك ثلاثة أنواع من العناصر التي يقوم عليها النسق العلمي. وهذه الأنواع هي: 1- العناصر النظرية: وتتمثل في مجموعة المفاهيم والمنطلقات التصورية التي يحاول العالم من خلالها أن يفسّر الظاهرة التي يتصدى لدراستها. 2- العناصر الاجتماعية: وتتمثل في الشكل المؤسسي الذي ينتج العالم من خلاله معرفته العلمية؛ وذلك مثل مراكز البحوث، أو الجامعة.. إلخ. 3- العناصر العملية، أو عناصر العائد العام: وتتمثل فيما يترتب على هذه المعرفة العلمية من آثار في مجال فهم هذه الظاهرة، ومن كيفيات التأثر بذلك في السلوك العلمي. وربما يكون هذا التصور مفيداً عندما نطل من خلاله إلى واقع تطور الدرس اللساني في حياتنا العلمية العربية، وإلى علاقة هذا التطور بالسياق الثقافي العام. وهنا نلاحظ - بصفة عامة - أن اللساني العربي لم يكن متوفراً لديه - وقت بداية تعرفه على اللسانيات الحديثة - مرتكز للمساءلة النقدية التي يقيم على أساس منها رؤية واضحة للترابط الجدلي بين جوانب هذه العناصر. ومن ثم فقد وقف هذا اللساني من عناصر المفاهيم النظرية التي طرحتها عليه اللسانيات الوصفية - مثلاً - بدون مساءلة ما يترتب عليها من تحديد دور المؤسسة العلمية أو التعليمية في تشكيل طبيعة العلاقة بين الإنسان العربي ولغته. ولقد كان أخطر هذه العناصر المفهومية هو تغييب البعد الدلالي، أو البعد الوظيفي المعنوي، من عملية التحليل العلمي لهذه اللغة. وعلى حين أن هذا التغييب في النظرية الوصفية الغربية كان متسقاً مع معطيات الفلسفة الوضعية السائدة، فإنه كان في السياق الثقافي العربي متسقاً مع تسلط التبعية الذهنية للمرجعية المستعارة، من ناحية، ومن ناحية أخرى مع هيمنة ايديولوجيا الشكل التي حاول خطاب النخب التي حكمت بعد حركات الاستقلال أن يغطي بها على غياب المضامين الحقيقية، والبرامج الفعلية، لهذا الاستقلال. ولقد قاد ذلك إلى تشكيل موقف مضاد من إدخال البعد العقلي، ومن ثم البعد الفلسفي، في فهم ظاهرة اللغة. وأصبح مفهوم (العلم) في تعبير (علم اللغة) لا يعني إلا الجرد الشكلي، أو الإحصائي الكمي لمواضعات المدونة اللغوية. لقد أصبح العلم علماً ب(النص) لا ب(الخطاب). ومن ثم كان هذا الازدراء (العلمي) للعمليات العقلية من تقدير وتأويل وتوجيه وتعليل. كما يقول أنيس فريحة - مثلاً - أصبح «هم الباحث أن يدرس هذه اللغة درساً وصفياً تقريرياً descriptive analysis لا درساً فلسفياً، أي ذلك الدرس الذي من شأنه البحث عن العلة أحياناً. وإذا أصررنا على معرفة العلة والنتائج نكون قد خرجنا من نطاق البحث العلمي إلى دائرة الحدس والتخمين». وفي إطار هذا السياق قامت حركة (نقد النحو العربي) و(تقويم الفكر النحوي).. إلخ، لأنه قام ب(جريمة)إدخال العقل والتفلسف والمنطق في تحليل اللغة!! وفي إطار هذا السياق أيضاً لنا أن نتصور حجم دور المؤسسة التعليمية في تشكيل ذهنية لدى المتعلم ينفصل فيها الكلام عن دلالته الخطابية، وعن مرجعيته العقلية. ومن ثم تصبح مهمته ليس إعمال العقل تأويلياً فيما يقرأ أو يسمع، وإنما التسليم بظاهره المباشر، والوقوف به عند أقرب محطة لحرفية الدلالة. وحين نريد أن ننظر إلى (العناصر العلمية) التي ترتبت على ذلك فإننا نشير - مثلاً - إلى الموقف من الإبداع الأدبي لدى كثير من المتعلمين من حملة الشهادات العليا في تخصص اللغة العربية. فهنا نجد إما موقف القانع بالشرح المدرسي الاختزالي، إذا كان النص يسمح بتداول مباشر، وإما موقف العجز، ومن ثم الرفض والهجوم، إذا كان النص محملاً بجماليات الغموض والرمز. وفي كلتا الحالتين ثمة عجز فادح عن إنتاج الدلالة. وبطبيعة الحال فليس المقصود مما سبق أن اللساني يتحمل وحده تلك التبعات؛ إذ إننا نستطيع أن نشير إلى أدوار موازية (كهيمنة النموذج الاستبياني الإمبريقي في الدراسات السوسيولوجية - مثلاً). ولكن المقصود هو التأكيد على أنه لا يجوز للساني بالذات فيما يتعلّق باللغة - وهي حقل اختصاصه - أن تغيب عن وعيه تلك المساءلة النقدية الدائمة لما يترتب على العناصر النظرية التي يشتغل بها من نتائج على المستوى الثقافي العام. فاللغة ليست موضوعاً ينغلق في إطار تجربة معملية، أو إطار صيغ جبرية. إنها - بالأساس - ظاهرة ثقافية يخضع تحليلها - من ناحية - للتحولات المستمرة في منطق إنتاج العلم والمعرفة، ولكنه يخضع من ناحية أخرى - لضرورة الارتباط بتشكيل علاقات القوة والتضامن في الفضاء الثقافي للمجتمع.