قد أَلِفنا منذ ما يزيد على قرن من الدراسات الاستشراقية للقرآن اهتمامها وعنايتها الفائقة بالبحث في تاريخ القرآن: نشأته وتطوره ومصادره"وإهمالها قراءة النص القرآني باعتباره بنية متماسكة أو معطى دينياً ذا رسالة متكاملة إلى العالم. والدراسات القليلة التي اشتغلت من هذا المنظور غالباً ما كانت تقوم على مقارنته بالكتاب المقدس في اليهودية والمسيحية باعتبارهما المصادر الأساسية التي شكَّل القرآن من خلالها عقائده. إلا أنه في منتصف القرن العشرين ظهر عالم ياباني متبحر في العربية وآدابها هو توشيهيكو إيزوتسو الأستاذ في معهد الدراسات الثقافية واللغوية في جامعة كيو في طوكيو فقدم دراسات عدة عن القرآن الكريم بما هو نص لغوي ديني مستقل بذاته، محاولاً تطبيق ما توصلت إليها نظريات علم الدلالة في حينه. وظهرت أبحاثه هذه في كتبه الثلاثة: - الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم. طوكيو:1964. - المصطلحات الأخلاقية الدينية في القرآن، ط.2 مونتريال: 1966. - مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي طوكيو: 1965. وعلى رغم مضي أكثر من نصف قرن على صدور هذه الكتابات، فإن قلة نادرة من الباحثين العرب عرفوا بهذه الدراسات أو اطلعوا عليها. وبقي الحال على هذا حتى ترجم كتابه"الله والإنسان في القرآن"على يد عيسى العاكوب دار الملتقى، 2007. وكتاب إيزوتسو هذا يقوم على نظرة مفادها أن رسالة القرآن ورؤيته للعالم وفلسفته عن الوجود مركوزة في ألفاظه، أو بعبارة أدق: في الدلالات المكتنَزة في الألفاظ التي استعملها القرآن لبيان رسالته"وأن الدرس الدلالي لهذه الألفاظ سيكشف عن التطور الذي أحدثه الاستعمال القرآني في دلالاتها التي كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام، لتصبح هذه الألفاظ حاملة رؤية جديدة للكون، وفلسفة مختلفة للعالم. ومنهج البحث الدلالي الذي يعتمده إيزوتسو يلتقي في أصوله بالفلسفة اللغوية الهمبولتية نسبة إلى همبولت فليسوف اللغة الألماني، وكذلك ما يسمى"فرضية وورف وسابير"اللغوية، كما يستثمر بقوة ما توصل إليه اللغوي الألماني ليو فايسجربر Leo Weisgerber . والخيط الجامع بين هذه النظريات كامن في رؤيتها للصلة الوثيقة بين اللغة والفكر والثقافة، فاللغة ليست أداة للتواصل فحسب، بل هي أداة للتفكر أيضاً، ومن هذا المنظور فإنها وسيلة أساسية لتقديم مفهومات وتفاسير للعالم الذي يحيط بأهل اللغة. هكذا تصبح اللغة عمليةً عقلية تصوغ أو تعكس رؤية العالم عند أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات. فالثقافة تصوغ اللغة بالقدر الذي تصوغ به اللغة الثقافة، واللغة هي المفتاح لفهم فلسفة ثقافة ما، وإدراك رؤيتها للعالم. وبهذا يصبح علم الدلالة كما يفهمه إيزوتسو دراسةً تحليلية للتعابير المفتاحية في لغة من اللغات ابتغاء الوصول إلى فهم رؤية العالم Weltanschauung عند القوم الذين يستخدمون هذه اللغة في مرحلة محددة من تاريخهم الثقافي. ومن خلال هذا البحث يطمح إيزوتسو إلى الوصول إلى الفهوم الأولى أو التلقي الأول للوحي كما تجلى في عصر الرسول والصحابة... باعتباره فترة الصدمة أو النقلة الدلالية المباشرة التي أدركها العرب في حينه على نحو جليٍ وحاد. يقوم منهج إيزوتسو في التحليل الدلالي على نظرية"الحقول الدلالية". فالمعجم اللغوي لأي لغة من اللغات، أو نص من النصوص يتألف من عدد من الحقول الدلالية [المتشابكة]، كل حقل منها يتألف من مجموعة من الكلمات تربط بينها علاقات دلالية معينة، وتسمى هذه الكلمات مفتاحيةً"ومن بين هذه الكلمات كلمة صميمية، هي المركز المفهومي في الحقل الدلالي. وقد أوضح إيزوتسو منهجه في التحليل وأسسه النظرية على نحو دقيق ومفصَّل استغرق الثلث الأول من كتابه، وذلك قبل أن ينتقل إلى القسم التطبيقي الذي سعى فيه إلى الكشف عن رؤية القرآن للعالم، وفلسفته في الوجود. وقد خلص فيه إلى أن رؤية القرآن للعالم من الوجهة الدلالية قابلة لأن تُمثَّل في صورة منظومات مبنية على مبدأ التضاد المفهومي: أولاها: منظومة الله والإنسان: حيث ترتسم العلاقة بين الله والإنسان في خمسة وجوه يحكمها التضاد المفهومي أيضاً: - علاقة وجودية: خلق الإنسان - قدر الإنسان. - علاقة اتصالية غير لغوية بين الله والإنسان: تمثلها العلاقة بين مفهومي آيات الله وهداه من جهة، ومفهوم الإيمان والكفر والعبادة من جهة أخرى"آياتِ الله في الآفاق والأنفس والتاريخ باعتبارها الدعوة غير اللغوية من الله لهداية بني الإنسان، والإيمان والكفر باعتبارهما نوعي الاستجابة البشرية لهذه الدعوة، وعن الإيمان تنتج العبادة التي تعبر عن الاتصال الصاعد من الإنسان باتجاه الله. - علاقة اتصالية لغوية: تتمثل في العلاقة بين كلام الله الوحي باعتباره ضرباً من الاتصال اللفظي يحدث نزولاً من الله إلى الإنسان، والدعاء باعتباره مبادرة إنسانية للاتصال اللفظي صعوداً مع الله. - علاقة العبودية: وتتمثل في العلاقة بين مفهومي الرب والعبد، وما تستدعيه من مفاهيم الإسلام والجاهلية والدين. - علاقة أخلاقية: وتتمثل في العلاقة بين مفاهيم: الرحمة والانتقام، والوعد والوعيد الصادرة من جهة الله، ومفهوم التقوى أو الكفر باعتباره الاستجابة البشرية لهذه المفاهيم. أما المنظومة المفاهيمية الثانية التي يتجلى فيها التضاد المفهومي فتتجلى في مفهومي الغيب والشهادة، حيث ينقسم العالم من المنظور القرآني إلى قسمين: عالم الشهادة، وعالم الغيب. ويتبعهما مفهوما الدنيا والآخرة. إن دراسات إيزوتسو القرآنية تثبت أن النص القرآني قائم بذاته، وذو رسالة متكاملة ورؤية شاملة للإنسان والكون، رؤية لا يمكن ردها إلى - أو استنسابها من - أفكار العرب في الجاهلية أو من التراث اليهودي أو المسيحي، رؤية تجلت واضحة من خلال النقلة الدلالية الواسعة التي أدخلها القرآن على المعجم العربي لتعكس فلسفته عن الكون والوجود. ولعل هذا يفسر لنا إهمال معظم المستشرقين الدارسين للقرآن لأبحاث إيزوتسو القرآنية"وإن كان بعضهم قد قلل من أهمية أبحاثه لأسباب تتصل بإشكالات نظرية تتعلق بالنظرية الدلالية التي اعتمد عليها"أو لأنها - كما يرى شاخت مثلاً - لا تشكل إضافة إلى البحث الفيلولوجي الذي اعتاد المستشرقون القيام به منذ زمن طويل. على أية حال، فإن أبحاث إيزوتسو القرآنية بحاجة إلى قراءة عربية جادة بعد استكمال ترجمة بقية كتبه تستكشف آفاق البحث الدلالي وتطبيقاته على القرآن. فأبحاثه أكثر عمقاً وأجدى نفعاً من كثير من الدراسات العربية التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وحاولت الاستفادة من العلوم اللغوية الحديثة في دراسة القرآن، ولكنها انحدرت إلى مزلقين: تشويه النص القرآني أو تحريفه من جهة، وتشويه البحث اللغوي الحديث بفروعه المختلفة، وآفتها في ذلك - باختصار - التوظيف الإيديولوجي. * باحث سوري