يا له من منظر ساحر ومهيب عندما أطلت علينا مدينة سالزبورغ واستقبلتنا بجمال طبيعتها المذهلة التي اختيرت من قبل العديد من مخرجي الأفلام السينمائية لتكون المشاهد الرئيسية لأفلامهم العالمية، منها"صوت الموسيقى"The Sound of Music الذي قامت ببطولته الممثلة البريطانية"جولي أندروز"عام 1965. ومنذ ذلك التاريخ تحولت مواقع تصوير الفيلم إلى مزارات يقصدها الناس من كل حدب وصوب ليستحضروا حكاية أسرة"فون تراب"التي هربت من ظلم الحقبة النازية لتعيش في تلك البقعة النمساوية الآمنة. الموسيقى وجمال الطبيعة هما كنوز هذه المدينة المرصعة بالجبال والوديان والحدائق الغناء والمباني التاريخية. وسالزبورغ هي المدينة التي قدمت للعالم"موتسارت". فعلى أرضها ألف الموسيقى، ومن المؤكد ان سيمفونياته الخالدة ستؤثر في مشاعركم عند سماعها. وتبرز موسيقى"موتسارت"وتصبح أكثر شاعرية عندما تسمع نغماتها وسط سكون الليل حيث تبعث في النفس الهدوء والطمأنينة وفي الأجواء رومانسية غامرة لا بد وأن تفتح أمامكم آفاقاً رحبة للتفكير والتأمل. اليوم الأول كان لا بد في يومي الأول من التوجه إلى البلدة القديمة التي تتكىء على هضاب"مونسبرغ"وتحظى بحماية قلعة"هوهنسالزبورغ"الشامخة بكل فخر وإعتزاز. فمن خلال التجول في شوارعها الضيقة المرصوفة بالحصى، يمكن إستحضار التاريخ بمختلف عصوره وحقباته. ففي مكان واحد تتعانق المباني التي ترقى إلى العصور الوسطى، والعصر الروماني، وعصر النهضة، فضلاً عن بيوت أنيقة شيدت خلال الحقبة الملكية عليها غبار الزمن وحكايات الماضي. سرت في رحاب البلدة القديمة، فالسير فيها هو الوسيلة المثلى للتعرف إلى معالمها السياحية المدرجة على لائحة منظمة اليونسكو للتراث العالمي. الجميل في البلدة القديمة هو نهر"سالزاخ"الذي يخترق وسطها ويشطرها إلى قسمين. فإلى اليسار من النهر يقع الجزء الأقدم حيث المستعمرات الرومانية التي شيدت هناك قديماً. أما الجهة اليمنى فهي مخصصة للأبنية الحديثة والمكاتب التجارية، وتوصل عدة جسور للمشاة جزئي المدينة ببعضهما البعض، وهذا ما يجعل التنقل في أرجائها متعة في حد ذاتها. كثيرة هي المعالم التي توقفت أمامها منها ساحة"ريزيدانس"ونافورتها الشهيرة والسوق القديمة المجاورة لها، وكذلك قصر"ريزيدانس" Residenz Palace الذي يعتبر أهم مبنى تاريخي في سالزبورغ، ويرجع تاريخ بنائه إلى أكثر من 400 عام. ومن المعروف أن هذا القصر كان في السابق مقر البطاركة في المدينة، ويحتوي على 180 غرفة، أكثرها مزين بالتحف والمفروشات الكلاسيكية واللوحات الزيتية لأسياد الرسم العالميين. أكملت نهاري الأول في سالزبورغ بزيارة للمنزل الذي ابصر فيه"موتسارت"النور في السابع والعشرين من كانون الثاني يناير عام 1756. وقد أخبرتني المرشدة السياحية أن والد"موتسارت"كان عازف كمان ومؤلفاً موسيقياً في البلاط البطريركي، وقد وضع كتاب"الطريقة"لتدريس العزف على آلة الكمان. ففي الثالثة من عمره بدأ يلامس أصابع البيانو، وفي الرابعة أصبح ذا مقدرة على قراءة الموسيقى وحاول في هذا السن أن يصوغ لحنه الأول بهيئة كونشرتو، وفي سن التاسعة وضع أول كونشرتو بصيغة البيانو. رافق"موتسارت"الصغير والده في رحلات إلى ميونيخ وفيينا وباريس ولندن وإيطاليا، واستمرت هذه الرحلات الفنية إلى عواصم أوروبا حتى بلغ الثانية والعشرين. وتوفيت والدته حينما كانت تصحبه في رحلة إلى باريس فحزن كثيراً وعاد إلى النمسا ليستقر في مدينة سالزبورغ ويعمل في قصر البطريرك. لم تطل إقامة موتسارت هنا، فمؤلفاته والأوبرات التي كتبها تسببت في شهرته، لكن تلك الشهرة لم تكن كافية لضمان حياة كريمة للمؤلفين، وكان على الموسيقي الالتحاق ببلاط ما لتأمين عيشه. تعرف"موتسارت"إلى مؤلف الموسيقى النمساوي"جوزيف هايدن"واستفاد من خبرته. وأخبرتني المرشدة السياحية أن الحياة أرهقت"موتسارت"وقصرت من سنوات عمره، ففي الخامس من كانون الأول ديسمبر عام 1791 شهد البيت الذي كان يسكنه وفاته عن عمر ناهز الستة وثلاثين ربيعاً فقط. ورحل تاركاً وراءه ميراثاً موسيقياً عظيماً، يتجدد في الأفراح والأحزان وفي أكثرية المناسبات. وكل من يزور سالزبورغ ويتجول في شوارعها سيسمع سيمفونيات"موتسارت"تعبق الأجواء وتملأ الدنيا رحيقاً من عبق القرن الثامن عشر يدندن معه المارة بأنغام من أفواههم حيث يحفظها النمساويون عن ظهر قلب، حتى الذين لم يدرسوا الموسيقي يتباهون دائماً بأنهم مواطنو البلد الذي أنجب هذا العبقري. اليوم الثاني إستيقظت في يومي الثاني في سالزبورغ على إيقاع التمارين الموسيقية التي تقام قبل إفتتاح مهرجان المدينة للموسيقى. فسالزبورغ تبدأ عرسها السنوي للموسيقى في 26 تموز يوليو ولغاية 31 آب أغسطس وتتحول عندها إلى مسرح مفتوح للحفلات الموسيقية وعروض الأوبرا. وتصبح خلال تلك الفترة محط أنظار الآلاف من أهل البلاد والسياح الذين يتوافدون إليها لمشاركة أهل المدينة فرحتهم في هذه الذكرى السنوية التي ينتظرها كثيرون بشوق ولهفة. افتتح مهرجان سالزبورغ الذي أطلق عليه هذا العام إسم"ان الحب قوي كالموت"بعرض فني لمسرحية"الجريمة والعقاب"التي كتبها الأديب الروسي الشهير"دوستويفسكي". وبعد المسرحية صدحت في الأجواء موسيقى"موتسارت"، وكم شعرت بعظمة سيمفونيات العبقري النمساوي وأنا أسمعها على أرضه وفي المدينة التي تنشق من هوائها وشرب من مائها. وكم تأكدت عند ذلك أن الموسيقى ليست مجرد أنغام مليئة بالصفاء والحنان والبهجة، بل هي وسيلة تواصل لإلتقاء الذهن والروح عند الشخص الواحد. هكذا سيحول مهرجان سالزبورغ ليل المدينة إلى نهار، وسيكرم عظماء كثر في عالم الموسيقى والأدب كان لهم أثرهم ودورهم الكبير على جعل الموسيقى أكثر جمالاً وإشراقاً، والكلمة أكثر رقياً وشفافية. اليوم الثالث ويرحل يوم ويطل آخر، وسالزبورغ تتهادى على إيقاع الموسيقى والأنغام الشجية، وهذا ما يجعل من الرحلة إليها في تلك الفترة ذكرى طيبة لا يمكن نسيانها. بدأت جولة اليوم الثالث في شارع"غيتريديغاسيه" Getreidegasse وهو أهم وأقدم شارع تجاري في المدينة، وفيه دخلت إلى العديد من المتاجر التي تعنى ببيع الهدايا والتذكارات، ولاحظت وجود صورة"موتسارت"على الكم الهائل من القطع التقليدية المنتجة محلياً. فسواء وقع نطركم على علبة شوكولا أو على فنجان شاي فإن صورة الموسيقي النمساوي حاضرة على أي منها. وقادتني خطواتي إلى قصر"ميرابيل"Mirabell Palace وأمضيت بعض الوقت في حدائقه الرومانسية التي صور فيها مشاهد من فيلم"صوت الموسيقى". ولما أتعبني المشوار توجهت إلى مقهى"توماسيللي"Cafژ Tomaselli الذي نصحني أكثر من شخص بزيارته. دخلته فإستقبلني التاريخ من بابه الواسع إذ يرجع تاريخ إفتتاحه إلى عام 1705. تذوقت فيه الحلويات النمساوية وشربت القهوة التي يعطر أريجها المكان، ثم توجهت إلى كاتدرائية سالزبورغ التي تقدم مثالاً واضحاً لجمال الهندسة الباروكية التي تعود إلى القرن السابع عشر. ونهاية رحلة الثلاثة أيام كانت في قلعة المدينة"هوهنسالزبورغ"Hohensalzburg التي كانت تطل علي أينما حللت، وكأنها كانت توجه لي دعوة لزيارتها قبل مغادرتي المدينة. وصلتها بعد أن تسلقت طريقاً ضيقة مغمورة بالزهور والأشجار الدائمة الخضرة، وما أن دخلتها حتى بدأت أتعرف أكثر على دورها المهم في حياة المدينة، فعلى إمتداد تاريخها الطويل الذي يزيد عن 900 عام، وقفت القلعة بوجه الأعداء وقواتهم، وكانت حصناً ومقراً سكنياً مؤقتاًً لرؤساء أساقفة المدينة. بعد زيارتي لكافة اجنحتها، وقفت في ساحتها الخارجية وألقيت نظرة أخيرة على هذه المدينة الودودة التي ان زرتها مرة ستحن للعودة إليها مراراً.