لا تكتمل زيارة مدينة سالزبورغ النمسوية من دون زيارة متحف موتسارت، الموسيقي الذي شغل دنيا الفن ولا يزال. بعد أكثر من 250 سنة على وفاته، يفرض موتسارت ظله على المدينة كما يفعل على تاريخ الموسيقى. يقع المتحف في قلب المدينة القديمة، وبالتحديد في شارع غيتريدغاس، أكثر شوارع المدينة سحراً، ليس فقط بسبب طابعه المعماري الفريد، إذ وضعت المنطقة بأكملها ضمن قائمة منظمة «يونيسكو» للتراث المعماري الفريد اعتباراً من عام 1997، ولكن بسبب المحال التجارية التي تسبب ازدحاماً لافتاً وتستقطب الآلاف من السياح على نحو يكسر الإيقاع الهادئ للمدينة. ولد موتسارت في سالزبورغ عام 1756، وكان والده عازفاً على آلة الكمان ومؤلفاً موسيقياً في البلاط. بدأ نشاطه الموسيقي في سن الخامسة، وفي سن السادسة شارك في حفلات، وقدم أول أوبرا وهو في الثانية عشرة. ثم غادر إلى فيينا، وبادر الإمبراطور النمسوي جوزيف الثاني إلى دعوته للعمل في البلاط، وأنعم عليه بابا روما بلقب سام من ألقاب الكنيسة هو «أماديوس»، أي المحبوب. وعلى رغم شهرته، عانى موتسارت عسراً مادياً، ودفن في مقابر الفقراء عند وفاته عام 1792. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أنه عاش وعائلته في الطبقة الثالثة من البيت ثماني سنوات، قبل أن ينتقل في شكل دائم إلى فيينا في بداية 1781، وفي هذا البيت كتب موتسارت أشهر أعماله. وخلال الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1944، انفجرت قنبلة في المنزل، ودُمِّرت أجزاء من المبنى الذي انتقلت ملكيته بالكامل إلى «مؤسسة موتسارت الدولية» (مؤسسة موتسارت) عام 1989. وافتتح كمتحف رسمي في 26 كانون الثاني (يناير) 1996. أول ما يلفت النظر في البيت المكوّن من ثلاث طبقات، تواضعه التام وضيق مساحته على نحو يجعل من الصعود مغامرة لا حافز فيها سوى اقتفاء أثر صاحبه، وملامسة الجدران التي لامستها الأصابع التي غيرت تاريخ الموسيقى. ويضطر زائر البيت إلى الصعود عبر سلّم يشبه أنبوباً يتلوى في شكل دائري، ولا يسمح إلا بصعود فرد واحد، لذلك فإن الرحلة أقرب ما تكون إلى حركة كرات الدم في شربان، بمرافقة موسيقى موتسارت التي لا تغيب، مثلها مثل صورته التي تتابع مع تتابع الأنفاس. في الطبقة التمهيدية تقف موظفة بابتسامة روتينية تدعو الزوار إلى إطفاء الكاميرات ووقف استعمالها، وتشير بحدة إلى لافتة توكد أن على الزائر متابعة الرحلة عبر الإنترنت من خلال الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر والتعاطي مع أجهزة الشرح التي تتاح للزائر بلغات عدة، ليست العربية من بينها. لكل غرفة حارس خاص لمراقبة انضباط الزوار والتزامهم التعليمات، ومن خلال الشريط المصاحب نعرف أن «مؤسسة موتسارت الدولية» نجحت في تأسيس أول متحف في مسقط رأسه في 15 حزيران (يونيو) 1880، وعملت على تشكيل مقتنيات البيت في صورة منهجية وموسعة طوال عقود، شملت أدوات ووثائق وتذكارات تاريخية، تثير الشغف بتتبع نمط الحياة التي عاشها موتسارت الذي أرهقته الحياة. فثمة أدوات للطبخ وتناول الطعام والكتابة، فضلاً عن مدوناته الموسيقية المحفوظة بخط يده والتي تجاور رسائل كتبها إلى الأطراف الفاعلين في حياته، لا سيما والده وزوجته. وتبدو القاعة التي تضم اللوحات التي رسمت لموتسارت خلال حياته، أكثر قاعات العرض ثراء وحيوية، خصوصاً حين تظهر اللوحة الزيتية التي لم تكتمل «موتسارت على البيانو»، والتي رسمها لموتسارت صهره جوزيف لانغ عام 1789. كما تضم المعروضات الشهيرة كمان موتسارت خلال الطفولة، موترة المفاتيح، وبيانات قيثارته، وكذلك آلة الكمان التي استعيدت لاحقاً وهي في حال جيدة وصالحة للعزف. وكان بيترو أنطونيو صنعها خصيصاً للفنان عام 1764، وحصلت عليها «موتسارتيوم» كهدية إلى المؤسسة من شركة «دتسينغر» المتخصصة في تصنيع الآلات الموسيقية، ووضعت إلى جانب آلتي البيانو والكمان المتوسطة الحجم (فيولا). وخلال جولة في أروقة المتحف، يتابع الزوار قصصاً لعائلة موتسارت مع المنازل التي سكنتها، وهي قصص ذات طابع درامي لافت، وتظهر بالوثائق التي يظهرها الموقع الإلكتروني للمتحف تحولات عاشتها الأسرة، إذ كتب ليوبولد موتسارت إلى مالك المنزل: أين سأجد لموتسارت غرفة؟ وأين سأسكن أطفالي الآخرين؟ وتُظهر وثائق أخرى الفقر الذي عانته العائلة، كما تظهر الجانب المرح من شخصية موتسارت عبر رسائل تؤرخ جولاته في المدن الأوروبية التي زارها، وتبيّن المعروضات من الأثاث أنماط الديكور خلال تلك الفترة الغنية من تاريخ أوروبا والتأثير الطاغي لزوجته. وتخصص الطبقة الثانية من البيت لموضوع «موتسارت في مسرح»، ويعرض بانوراما تظهر تواريخ استقبال أوبرات موتسارت في مختلف مسارح العالم وحولها اسكتشات للمناظر المسرحية وملابس أبطال أوبريتاته، ونماذج المرحلة من القرن ال18 إلى أواخر القرن العشرين. وخصصت المؤسسة معرضاً خاصاً في الطبقة الأولى للعروض المتغيرة، إلى جانب القاعات الرئيسية التي تحمل عناوين، مثل: «يوم في حياة طفل معجزة»، و«موتسارت في العائلة». وبخلاف الأشياء التي ترك فيها موتسارت أثره، ثمة نوع من الوثائق البصرية والمسموعة التي يمكن الاطلاع عليها بنظام الديجيتال، داخل قاعة صغيرة ومستطيلة تحتوي على نحو 8 أجهزة كومبيوتر مزودة بسماعات تتيح للمتصفح الاستماع إلى موسيقى موتسارت وتصفح صوره ومدوناته. ويشمل البيت مركزاً توثيقياً يضم وثائق وأرشيفات لغالبية القضايا التي تخص موتسارت، خصوصاً ظروف وفاته، أو بالأحرى حسم أسبابها، خصوصاً ما يتعلق بأسباب اتهام المؤلف الموسيقى الإيطالي أنطونيو ساليري بالتورط في تسميم موتسارت بواسطة الزرنيخ، وهي رواية تبناها الشاعر الروسي الشهير بوشكين في النص المسرحي الذي كتبه ووضع له عنوان «الحسد: أو موتسارت وساليري». وراجت تلك الرواية في فيلم «اماديوس» الذي أخرجه ميلوس فورمان عام 1984، والمأخوذ عن مسرحية لبيتر شيفر. لكن فورمان يخالف تلك الرواية ويظهر أدلة براءة ساليري ويقدمه كداعم لموهبته وليس كقاتل حقود. وفي نهاية الجولة يمكن الزائر الوقوف بين خيارين: إما تناول الطعام والقهوة في مطعم ملحق بالمبنى يحمل اسم موتسارت، أو التجوال في قسم مخصص لهدايا تذكارية تحمل كلها صور موتسارت وإشارات إلى أعماله، ومنها قبعات وأغطية رأس وبطاقات للعب الورق وكؤؤس وعلب شوكولا وحقائب ومظلات واقية من المطر وأسطوانات مدمجة تحمل أعماله الموسيقية الكاملة.