قد لا يصدق أحد، أن روبرت موغابي صاحب التاريخ النضالي الطويل ضد النظام العنصري السابق في روديسيا زيمبابوي حالياً، لم يجد في صندوق أدواته السياسية، لحكم بلاده عشية استقلالها عن بريطانيا سوى وصفة الإمبريالي الأكبر سيسل ردوس، القاضيه بالرضوخ لحكم وتحكم الأقلية البيضاء ذات الامتياز والنفوذ الكبيرين في زيمبابويوالجنوب الأفريقي بعامة جنوب أفريقيا، موزمبيق، ناميبيا، زامبيا.... ففي عام 1980، وقبل أن يتسلم الحكم في زيمبابوي قام"موغابي"بزيارة موزمبيق، حيث اجتمع بالرئيس الراحل سامورا ميشيل الذي نصحه بعدم تكرار الخطأ الذي وقع فيه هو شخصياً بإطلاقه تصريحات عنيفة دفعت بالأقلية البيضاء للهروب من البلاد، وقد التزم موغابي بهذه النصيحة وبقي حتى عام 2000 يوفر الحماية لورثة القوى الاستعمارية تحت ضغوط قوية من جانب الغرب، وهو ما اعتبره بعض المفكرين الأفارقة بمثابة نموذج لظلم النفس للنفس. منذ عام 1890 بدأ المستوطنون يتوافدون إلى المنطقة التي أصبحت في ما بعد زيمبابوي، وقد حصلت الشركة البريطانية لجنوب أفريقيا المملوكة لسيسل رودس على الحق في استيطان المنطقة من الحكومة البريطانية، وعند انتهاء مدة الامتياز في عام 1922، أعلنت الأقلية البيضاء الحكم الذاتي، وأصدرت عام 1930 قانوناً يحد من قدرة الغالبية السوداء، السكان الأصليين، على تملك الأرض"ونتيجة لذلك أصبح قطاع عريض من السكان الأصليين عمالاً في مزارع البيض، وعند حصول زيمبابوي على استقلالها في الثامن عشر من نيسان إبريل 1980، بلغ عدد السكان البيض 1.6مليون يمتلكون 14.4مليون هكتار من أجود الأراضي الزراعية وبلغ عدد السكان الأفارقة الأصليين 4.1مليون، وكانوا يمتلكون نحو 16.4مليون هكتار من الأراضي الأقل صلاحية للزراعة. وقد تعهدت بريطانيا في اتفاقية لانكستر، التي حصلت بمقتضاها زيمبابوي على الاستقلال بتوفير أموال للمساعدة في إعادة توزيع ملكية الأراضي في شكل أكثر عدلاً ولكنها تراجعت عن وعودها. وفي الواقع فإن الاستعمار الاستيطاني البريطاني لزيمبابوي، استهدف أولاً الاستيلاء على الأرض، من خلال سلسلة من المذابح ضد أصحابها الأصليين السود، ولا تزال ذاكرة الزيمبابويين تحتفظ بالكثير من المآسي عن المذبحة التي ارتكبها الإنكليز ضد شعب النيدبيلي في إقليم ماتايلاند في زيمبابوي عام 1894. وسعى المستوطنون البيض إبان الحقبة الاستعمارية الى الإبقاء على تدني المزارعين السود وتخلفهم لتحقيق هدفين أساسيين: ايجاد قوة عمل أفريقية رخيصة من جانب، والحيلولة دون منافسة المزارعين الأفارقة للبيض من جانب آخر، واستخدم المستوطنون في سبيل ذلك كل السبل الممكنة من فرض ضرائب على الرؤوس لإجبار الأفارقة على العمل بأجر في مزارع البيض وانتزاع أراضي الأفارقة وإعادة توطينهم، وهذا هو الوضع الذي ورثته حكومة الاستقلال عام 1980. أدرك موغابي منذ بدايات حكمه، حقيقة المأزق الذي تفرضه عليه قضية الأرض. وهو مأزق مزدوج، فمن ناحية، سيؤدي تأميم أراضي المزارعين البيض ومصادرتها لمصلحة السود إلى هجرتهم من البلاد وهروب المستثمرين"الأمر الذي سينتج منه بالتبعية تدهور الإنتاج، ومن جهة أخرى، فإن عدم مواجهة المشكلة التي يعانيها المزارعون السود ومطالبتهم بإعادة توزيع الأرض، ستكون له نتائج خطيرة على الاستقرار الداخلي، وبناءً عليه ربطت الحكومة الاستمرار في الالتزام بسياسة عدم التأميم باستمرار تقديم العون الكافي من بريطانيا والمؤسسات النقدية الدولية وفي مقدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. نجح موغابي في إدارة هذا التوازن طيلة ما يقرب من عقدين بالاستناد إلى ثروات البلاد وقدراتها الاقتصادية، في وقت كانت فيه زيمبابوي ثاني أكبر دولة صناعية في أفريقيا جنوب الصحراء بعد جنوب أفريقيا، لامتلاكها صناعة تحويلية متنوعة وتكنولوجيا متقدمة، فضلاً عن كونها أكبر دولة منتجة للكروميت، ومصدره للنحاس والنيكل والذهب والاسبستوس، إضافة إلى تمتعها بالاكتفاء الذاتي في إنتاج المواد الغذائية، غير أن تراجع أسعار المواد الأولية في التسعينات من القرن الماضي أدى إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي في زيمبابوي من 7في المئة عام 1996 إلى نحو 3 في المئة في نهاية التسعينات، وبنتيجته وصلت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى نحو 70 في المئة من السكان. وما فاقم الأمور وزاد من عجز موازنة الدولة، محاولة موغابي دعم جميع الخدمات للسود، تعويضاً لهم عن سنوات العنصرية التي حرموا خلالها من الحد الأدنى من المعاملة الآدمية، وبدأت زيمبابوي إنفاقاً كبيراً لتمويل برامج ضخمة للرعاية الصحية والتعليم، حتى أن هذين القطاعين بلغا مستويات لم يبلغاهما في جميع دول جنوب الصحراء، ونتيجة للاستمرار في تلك البرامج، لجأت الحكومة إلى الاقتراض في شكل كبير، وبالتالي بدأت الدائرة الشريرة تضيق اقتصادياً ومالياً على زيمبابوي، ومع تزايد العجز في الموازنة لجأت الدولة الى تجرّع أدوية صندوق النقد الدولي التقليدية في تسريح العمالة وخفض قيمة العمل وإلغاء الدعم وتزايد التضخم، وغيرها من الإجراءات التي غالباً ما تأتي على حساب الفقراء، وبذلك دخلت زيمبابوي في دوامة الديون الخارجية. مما لاشك فيه أن الأراضي الزراعية في ظل موروث استعماري استيطاني شرس تعد رمزاً للاستقلال الوطني، ومع التزايد الهائل لمعدلات البطالة كان من الطبيعي أن تستشعر القطاعات العريضة الفقيرة من الشعب بأن نضالها من أجل الحصول على الاستقلال منحهم استقلالاً سياسياً، افرغته من معناه القوى الاستعمارية، وبالتالي فإن عمليات الاستيلاء على مزارع البيض الزيمبابويين التي بدأها الرئيس موغابي بدت مفهومة، وإن كانت غير مبررة قانونياً. كان للإصلاحات التي قام بها موغابي في مجال الأراضي الزراعية أثر مهم على الداخل، إذ أنها استهدفت القطاع الريفي الذي يمثل سكانه نحو 70 في المئة من إجمالي سكان البلاد، إلا أن هذه الخطوة تسببت في توجيه اتهامات لزيمبابوي بأنها"الدولة الوحيدة التي يتم فيها ممارسة التمييز العنصري ضد البيض وليس السود كما يحدث في بعض بلدان العالم". وقد دفعت هذه القضية بالدول الغربية أوروبا والولايات المتحدة الأميركية إلى تشديد حصارها الاقتصادي والدبلوماسي ضد زيمبابوي لإفشال سياسات موغابي وإظهارها على أنها السبب الرئيس للأزمة الاقتصادية الناتجة من انخفاض المحاصيل في شكل حاد، وبالفعل فقد غرقت زيمبابوي في أزمة اقتصادية خانقة، كان من جراءها ارتفاع التضخم إلى نسب فلكية، وارتفاع نسبة البطالة إلى 80 في المئة، وبات مواطنو زبمبابوي التي عرفت ب"سلة خبز أفريقيا"يعتمدون في بقائهم على قيد الحياة على المنح الدولية من الأغذية والأطعمة، ويفر كل يوم الآلاف منهم، حيث يخاطرون بأرواحهم أثناء عبورهم نهر ليمبوبو الذي تعج مياهه بالتماسيح، ثم تسلقهم السياج الحدودي ليدخلوا إلى أراضي جنوب أفريقيا، وتقدر بعض الجهات الدولية عدد المهاجرين النازحين بثلاثة ملايين، أي حوالى ربع سكان زيمبابوي. وتؤكد وكالات المعونة الدولية أن ستة ملايين، أي نصف عدد السكان يحتاجون الى مساعدات غذائية، في خضم أزمة غذاء أوسع نطاقاً تهدد نحو 13مليون نسمة في ست دول في جنوب القارة الأفريقية، ويقول جون ماكامبي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة زبمبابوي"إن أكثر من 50 في المئة من الأسر في زيمبابوي لا تزال على قيد الحياة بفضل التحويلات النقدية لحوالى 5 ملايين زيمبابوي يعملون خارج البلاد، وقد ينهار نظام موغابي في حال توقف هؤلاء عن تحويل الأموال ستة أسابيع". ويقف النظام الصحي في زيمبابوي على عتبة الانهيار، الأمر الذي سينتج منه تداعيات شديدة الخطورة محتملة على 1.8مليون من حملة فيروس الإيدز بين السكان، إذ تقدر مصادر طبية دولية وقوع ثلاثة آلاف حالة وفاة أسبوعياً. وعلى الصعيد السياسي، وجدت بريطانيا، والدول الغربية، في مورغان تسفانجيراي وحزبه"حركة الديموقراطية من أجل التغيير"، ضالتها، وقدمت له الدعم الإعلامي والسياسي وربما المالي، كما أفاد تسفانجيراي من المصلحة البريطانية في إضعاف حزب موغابي الحاكم"زانو"وإعادة هيكلة التركيبة السياسية في زيمبابوي من أجل الحفاظ على مصالحها ومصالح مواطنيها في زيمبابوي. أثارت أزمة زيمبابوي مشكلة ملكية الأوروبيين للأراضي في الجنوب الأفريقي الذي يجب أن يكون مستقراً كله من أجل الثروات الكبرى، حيث تختزن المنطقة احتياطات ضخمة من الذهب والماس، والمنغنيز، والبلاتين، والكروم، والفرومكيوليت مادة مقاومة للحرائق، والفانديوم وتستخدم في صناعة السيارات والطائرات، والزيركون مادة تستخدم في صناعة الخزف وأذرع التحكم النووية، والتيتانيوم دخل في صناعة محركات الطائرات... وربما تكون زيمبابوي الفتيل الذي ينفجر بسبب المستوطنين الأوروبيين والموقف البريطاني ليمتد إلى جنوب أفريقيا وناميبيا على وجه الخصوص، ويعتقد خبراء أفريقيون أن أزمة زيمبابوي تفتح ملفاً أفريقياً شائكاً مليئاً بالعداء والتاريخ الدموي بين البيض والسود، لن يلبث أن يلقي بظلاله على الدول الأفريقية الأخرى ولاسيما دولة جنوب أفريقيا حيث يسيطر البيض على 87 في المئة من الأراضي فضلاً عن سيطرتهم على المؤسسات التجارية. ويدرك موغابي مدى حساسية قضية الأرض في منطقة الجنوب الأفريقي، وأثرها الشعبي والرسمي، وحدود الضغط الذي يمكن أن يمارسه الغرب ضده، من هنا يفهم موقف رئيس جنوب أفريقيا تامبومبيكي المتعاطف مع موغابي، لإدراكه أن الجزء الأكبر من شعبه يتعاطف مع الموقف الرسمي في زيمبابوي، جراء معاناته من سيطرة البيض على اقتصاد بلاده. وقد ساهمت أزمة زيمبابوي في تعقيد العلاقة بين الدول الأفريقية والغرب حيث اتهمت دول القارة بريطانيا وغيرها من الدول الغربية بفرض إمبريالية جديدة على الدول الأفريقية، مؤكدة أن الأزمة كشفت المخططات حيث عكست مواقف الدول الغربية من الأزمة حرصها على حماية مصالح المزارعين من أصل أوروبي أكثر من سعيها الى ضمان حقوق الغالبية السوداء في التمتع بالحرية السياسية والكفاية الاقتصادية. إن ما يدفع موغابي ليكون واثقاً وهادئاً، هو تلك المعايير المزدوجة التي يتبعها الغرب، ففي الوقت الذي يطالب فيه موغابي بالتنحي عن السلطة، ثمة رؤساء آخرون يغتصبون السلطة بموافقة ورضا الغرب، فحين ينظر موغابي حوله يجد أن أفريقيا كلها محكومة بالدم والحديد والفساد، والفارق الوحيد هو مدى الولاء للغرب. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق